مقالات

“الرَّقع والرُّقعة والرَّقيع” الحلقة السادسة عشرة من ماء الكلام يكتبها وليد الخطيب

في زمنٍ كثرت الثقوب والثغرات في كلّ شيء، بات لزامًا أن نعيد الاعتبار إلى فعلٍ بسيط في ظاهره، عميق في اشتقاقه، وهو “رَقَع”. إنّ لغة الضاد، إذ تمنح جذر الكلمة القدرة على التناسُل في المعنى والدلالة، تُظهر عبقريّتها من خلال كلماتٍ تبدأ من الفعل “رَقَع” الذي يدلّ على “الترميم والضمّ والتسوية والتستّر”.

    “رقعَ” معناه ضمّ الممزّق ولأْمَه، والرَّقْعُ هو “أن نوصل شيئًا بشيءٍ آخر لئلّا يبدو الخلل”. والرُّقعة هي ما يُرقَع به الثوب، ومنها جاءت “رقعة الورق” أيضًا، فهي ما يُكتب عليه لتُضمّ إلى كتاب أو تُقدّم وسيلة اتصال. ومن الرقع – حيث شيء يُضاف فوق شيء – جاءت تسمية “رُقعة الشطرنج”، لأنّها مربّعات مضمومة تُشكّل سطحًا واحدًا.

    إنّ الذي يرقَعُ ثوبًا، لا يخيطه كيفما اتّفق، بل يراعي في الرقعة “الملاءمة بين الجديد والبالي، والستر من دون الفضح”. وهنا يصبح الفعل “رَقَع” قرينًا بالحكمة والصنعة والمهارة، لا مجرّد محاولة لإخفاء النقص.

     والرُّقاع، جمع رقعة وهي لا تدلّ على رقع الثياب وحسب، بل على المواضع الصغيرة من الأرض أيضًا، ومن ذلك قولنا: “سكن رقعةً من الأرض”، أي قطعة محدودة. والرَّقيع هو “ما ضُمَّ بعضه إلى بعض” من سحابٍ أو أثواب… وهو من أسماء السماء أيضًا في بعض المعاجم، لِما فيها من تراكم طبقات وضمٍّ لمواضع مختلفة.

    أمّا في قولنا “رَقَعَ فاهُ ولم ينطق” فنعني “سَدَّه أو أغلقه”، كناية عن الصمت وربما الكتمان.

    وإذا قيل “رَقَعَ الصوت”، أي “رفعه فجأة من دون تنغيم”، كأنّ الأصوات في حال توازن، فإذا بها تُخترق برفع الصوت كما يُخترق الثوب بالخرق، فيحتاج إلى رقعة من جديد.

    والرُّقعة في الخطّ العربيّ نوعٌ معروف، سُمّي كذلك لصغره وسرعته في الكتابة، ولأنّه كُتب على رقاع الأوراق، فغلب الاسم على النوع، فصارت الرقعة خطًّا لا رقعة فقط.

     بهذا، نرى أن “رَقَع” في جوهره ليس مجرد خياطة، بل هو “فعل ترميمٍ وإنقاذٍ وسترٍ ومهارةٍ أيضًا”، يعكس قدرة العربيّ على إعادة وصل ما انقطع، وإضفاء الحياة على ما تلف، برفعة المعنى قبل رقعة الثوب.

زر الذهاب إلى الأعلى