قصائد الألم والانتصار: قراءة في ديوان انتصار الضحايا
قراءة نقدية في ديوان “انتصار الضحايا”
لمحمد الخطيب
بقلم: د. عبد الرحيم حمدان – أكاديمي وناقد
الشاعر محمد خليل الخطيب أحد الأصوات الشعرية المتفردة والمتميزة في المشهد الشعري العربي الفلسطيني والمنفتحة على أفق إبداعي إنساني، وهو شاعر ملتزمً بقضايا شعبه ووطنه، ومسكون بهموم الإنسان الفلسطيني والجماهير المسحوقة المناضلة الكادحة.
وقصائده مفعمة بالصدق الفني، وحرارة التجربة والإحساس العالي بوجع الغربة، وألم المنفى.
وهو شاعر الدهشة والوهج الشعري، له صوته الخاص، ونكهته المميزة، وتجربته المتفردة، وبصماته الخاصة.
لقد سَعِدْتُ أيَّما سعادة حينما أهداني الشاعر محمد الخطيب ثاني نتاجه الشعري الموسوم ب “انتصار الضحايا” الصادر عن دار الكلمة بغزة، في طبعته الأولى لعام ٢٠١٩ م، والذي يشتمل في مجمله على (٩٦) صفحة من الحجم المتوسط، ويضم (٣٣) قصيدة، في غلاف مرتب وأنيق. وقد تزين الديوان بمقدمة نقدية عميقة نقشها قلم أستاذ النقد والبلاغة الدكتور/ مسلك ميمون من المغرب.
فشرعتُ -على فوري- بقراءة الديوان الممتع الشائق، على الرغم من الوقت الخانق الذي تزامن مع حدوث العدوان
الغاشم على أهل غزة الصامدة في أكتوبر عام ٢٠٢٣م، ثم وجدتني أعيد قراءة الديوان مرة أخرى؛ لما يضمّ بين دفتيه من تنوع موضوعاته، ورقة معانيه، وسلاسة موسيقاه، وبساطة لغته وتمكُّنها، وجدَّة صوره الشعرية، وتجلي شخصية مبدعه تجلياً يجعل المتلقي يستحضر صورة نفسه المتأججة،وشاعريته الملتهبة.
وانطلاقاً من أن الأديب الفلسطيني يستحق كل التوجه النقدي، وبخاصة أن النقد الفلسطيني قد حقق درجات مهمة، ومكانة كبيرة، فينبغى أن يتوجه هذا النقد إلى إبداع أهل فلسطين من الأدباء، والشعراء، والكتاب، بدلأً من أن ينشغل النقاد بإبداعات الأدباء خارج فلسطين، فعليهم أن يتوجهوا إلى الأدب الفلسطيني؛ لأنه أكثر خصوبةً، وأكثر حرارةً من كثير من الإبداعات الأخرى، وأن ديوانه يستحق الدرس والتحليل والتأمل، إذ حظي هذا الديوان باهتمام القراء والنقاد والدارسين، فقد بدأت بدراسته، وتبين له ما يأتي:
اعتمد الشاعر ” محمد الخطيب” في تقديم فكره وشاعريته للمتلقي على التطواف في عدد من الدوائر المتنوعة من موضوعات فنِّ القول؛ اتسم ديوانه بجملة من الظواهر الأسلوبية التي تجلت في أساليب الشاعر التعبيرية والجمالية، من ذلك: موضوعات وطنية وقومية، إذ تحدث عن أماكن وطنية ذات رموز عميقة في الوجدان الفلسطيني مثل: غزة، والقدس، وجنين، ويافا، وصبرا، وقانا، الجليل، والخليل، وصوّر بصدق وعفوية الطفولة البريئة المجروحة، وكشف عن تجليات الطبيعة الفلسطينية ونثرياتها في ثوب قشيب، فضلا عن الإشارة إلى وخز الضمير العربي المستكين.
ومن أبرز تلك الخصائص؛ هيمنةُ ظاهرة ثنائية الحزن والفرح، وتوابعهما من دماء، وآلام، ومساء، وليل، وغربة، وعذاب، وشمس، وشروق، وحرية واستقلال.
كما تبدى ذلك في أول قصيدة في الديوان والتي جاءت بعنوان:” شرفة الليل”، يقول الشاعر:
أيا مشهد الحزن أقمت فينا طويلا.
وأصبحت تدمن غرس المساء
بأجفاننا كل حين لتعبر عمرا
تخمر في مقلة الوقت موتا
وتأتي بما قد يليله.
(الديوان ص ١٢).
يصف الشاعر في هذا المجتزأ السابق الحزن الذي يمزق الأفئدة، ويحرق القلوب في لغة صافية مختارة، وشجن مشمس، إذا لفح المتلقي شمّ ريحته وعبقه، إذ يؤثر في نفس المتلقي، ويصف الخوف المخيم على فؤاد الإنسان بسبب الغربة واللجوء ومآسي الاحتلال، إنه حزن متفرد معتق، لا يوازيه حزن وألم، ذلك أن مبعثه الاحتلال والقتل والغربة والتشرد، والحصار، والانقسام البغيض، إنه حزن زاد من أواره الواقع المعيش الذي تردي في هوته اللعينة الشعب الفلسطيني المنكوب، وقد نسجه الشاعر في لغة حزينة شفيفة، وفي بساطة ويسر بعيدا عن الغموض والتعقيد والالتواء في مفرداتها وتراكيبها وأسلوبها المتنوعة خبرية وإنشائية، ولوحات تصويرية نابضة بالحيوية والحركة قادرة على إحداث الاستجابة الوجدانية، والتأثير في المتلقين.
ومع هذا، فإن هيمنة الأمل في الحرية والعودة واللقاء هي المسيطرة على مشاعر الشاعر، فمن رحم الموت والغربة يولد الأمل والتفاؤل والعودة.
يقول الشاعر في مطلع قصيدته الثانية في الديوان والموسومة ب “رقصة فرح”:
هيا انثروا ورد البنفسج
فوق أطلال الدمار
فأرض غزة لا تموت
ولا تسلم طفلها للغول
(الديوان ص ١٣).
فعنوان الديوان جاء متساوقاً ومتماهياً مع مضامين نصوصه وقضاياه، فدم الضحايا هو انتصار للأحياء والمبادئ وللحرية وللعودة وللوطن،
يقول الشاعر في قصيدته التي تحمل عنوان الديوان:
“انتصار الضحايا” لم يكن الشاعر ليختار عناوينه جزافاً، بل كان يفكر بها، ويتدبرها، ثم يضعها تاجاً على هامة الديوان لأغراض مختلفة.
فالعنوان عتبة دلالية تعبيرية وعنصر بنائي مهم، وهو مصباح يضيء الأماكن المعتمة في النصوص الأدبية.
اختار الشاعر عنوان مجموعته الشعرية “انتصار الضحايا” بحذق وبراعة، وهو الخبير باختيار العناوين.
استخدم الشاعر الأسلوب الدرامي لا سيما أسلوب الحوار الداخلي الذي يأتي أشبه ما يكون بالمناجاة من طرف واحد، يقول مناجيا ولده الشهيد في قصيدة “ما أجملَ موتَك!”:
جميل أنتَ ياولدي
يَزفُّ الجرحُ في عينيك موكبَه
يسافر في خلايا الروح.
(الديوان ص ١٥).
وفي قصيدة “أحمد” التي هي أقرب ما تكون للشعر المسرحي الملحمي بما يحتويه من حوار درامي قصير، وفضاء زماني ومكاني، وصراع درامي، وأحداث، ونهاية مفاجئة غير متوقعة.
وفي قصيدة “رائحة الدم” التي يناجي فيها صاحبه يقول:
هل تعرف بيتي يا صاح؟
ضيعتُ بيتي
ضيعتُ أنا بيتي.
(الديوان ص ٤٦).
وقد وظف الشاعر الصور الشعرية المترعة بالإيحاء في حمل مشاعره ورؤاه إلى المتلقين نائياً عن أسلوب التقريرية والمباشرة والصوت العالي المجلجل.
ومن الصور الفنية قوله في مطلع قصيدته “انتصار الضحايا”:
ركام الموت
وصوت من الخوف يأتي
وعشق يموت
وطفل يعانق طفلا
ولا شيء بين العناقين دوما
سوى خيط دمع بريء
وسهم السكوت
وآثاره خوف على جثتين
وبعض الضحايا
وصمت المكان
وايد مرة بالهزيمة.
(الديوان: ص ٢٩ ، ٣٠ ).
ينفتح المجتزأ السابق على لوحة تصويرية لمأساة الشعب الفلسطيني، إذ يرصد الشاعر جملة من اللقطات والمشاهد المتناثرة المفردة، والتي ألتقطتها عدسة الشاعر التصويرية، وجاءت منتقاة مختارة وفق تقنية المونتاج المستوحاة من تقنيات عالم السينما، ولكنها في الواقع تنتظم في سلك حريري رقيق، يأخذ بعضها برقاب بعض، وتصب جميعها في لوحة فنية رائعة؛ لتشكل في مجملها مشهدا تصويريا ينبض بالحيوية والحياة والحركة؛ ليعكس مدى المعاناة التي يقاسيها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال البغيض.
ويمثل عنصر الموسيقى الخارجية والداخلية في الديوان مكوِّنا بنائيا مهمًّا، فالشاعر” الخطيب” شاعر رقيق اللفظ، مرهف الحس، يختار موسيقاه بعناية تتناسب مع دفء وجدانه.
وتتبدى الموسيقي في التكرار الرأسي، إذ يقول الشاعر في قصيدة “ترانيم”:
ألف سيف حول عنقي
ألف مشنقة لحبي
ألف سياف وخنجر
ألف مقبرة تشد زمام عمري
نحو نحرك
(الديوان ص٩٣).
فتكرار كلمة “ألف”، يمثل لازمة دلالية، ورابطة بنائية لغوية، تحمل طاقات نغمية معبرة، فهي محملة بدلالات معنوية ثرة تفيد التأكيد، وعمق المعاناة وقسوتها وغزارتها، ودلالة موسيقية نغمية، تسند الدلالة المعنوية وتقويها.
حيث تنفرج الغمة وتزول الغيمة وتشرق شمس يوم جديد يحمل تباشير غد الحرية والاستقلال.
ويجيء تنوع البناء الموسيقي ما بين البناء التقليدي والبناء الحر مصدر نغم وإيقاع موسيقي.
ويمتاز شعر “محمد الخطيب” بأنه من حيث البناء الفني قصير القصائد، سريع الإيقاع، خفيف الوقع، والنَّفَس الشعري، قصير متقطع؛ إذ تكثر المقطعات في الديوان، وكذلك القصائد القصيرة؛ والتنوع في بناء القصائد ما بين قصائد عمودية،
فقصيدة ” نحو الجنان ” التي مطلعها:
سقط الشهيد مضرجا
بدمائه
متوشحا، وعيونه نحو الوطن.
(الديوان ص ١٩).
هي من البحر الكامل المفعم بالموسيقى.
وأخرى على نمط قصائد شعر التفعيلة الحرّ، القائم على اختلاف عدد التفعيلات من سطر إلى آخر.
ويشعر المتلقي بسير طبيعي للقصيدة حتى تصل إلى نهايتها بدون قطع أو بتر حاد بحيث لا تستوفي الجمل والعبارات المعنى والحدث، أو تكون قابلة للزيادة أو التمدد..
فمثل هذه القصائقرب ما تكون بقصائد الومضة،
فالشاعر يلقي بنفثة شعورية دافقة سريعة في قالب موسيقي رشيق.
ومن السمات الفنية البارزة في الديوان؛ استلهام
التناصُ التراثي لا سيما استدعاء الشخصيات التراثية التي ترمز لقيم إنسانية عميقة، يقول الشاعر في قصيدة “أسكن في الغياب”:
جفت دموعي يا سموءل
فانقلب في كل بارقة عقاب
واحمل أساي سموءلي
فالحلم يسرقه الضباب
(الديوان ص ٤٩ ).
إننا أمام شاعر له مكانته الثابتة في عالم الشعر والأدب، وهو يقدم للمتلقين متعة جديدة في ديوانه الثاني الذي يمثل إضافة إلى عالم الإبداع.
ونأمل من الشاعر أن ينهض باستخدام أساليب أخرى في بناء قصائده، وإن وجدت بعض تلك القصائد التي تحتوي تلك الأساليب، فالشاعر في حاجة إلى تطويرها والبناء على إطارها، التوسع في استخدامها كأن يوظف البناء الدرامي أو الأسلوب القصصي أو يستخدم الحوار بحذق ومهارة أو يجتهد في أسطرة الوقائع والشخصيات، ويضفي عليها من خياله ما يجعلها قريبة من الأساطير المعاصرة، أو بناء قصائده على أساس تقنية الصراع الدرامي، أو توظيف تقنية القناع، أو المفارقة الفنية، أو الحلم، أو تقنية تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة التي تشي بالموضوعية، وتحد من هيمنة الميوعة العاطفية.
وأخيرا، نبارك للشاعر صدور ديوانه الجديد، ونرجو له المزيد من العطاء وغزارة الإنتاج، ودوام الحياة، والتمتع بالصحة والعافية، متمنين لها دوام الاستمرار، وروعة العطاء.


