إعادة تشكيل الواقع الفلسطيني : تحولات استراتيجية وأبعاد التصفية السياسية

بقلم: محمود الجبري-غزة
في ضوء التطورات السياسية والميدانية تتزايد المؤشرات على وجود تفاهمات غير معلنة بين أطراف إقليمية ودولية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني وفق معطيات جديدة. إلغاء القمة العربية في هذا التوقيت يعكس تحولات في أولويات بعض الدول ويثير تساؤلات حول مدى ارتباطه بقرارات جوهرية، مثل تشكيل لجنة رسمية لبحث تهجير سكان غزة. هذا التطور يعكس انتقال المخططات التهجيرية من المستوى النظري إلى الإطار التنفيذي ضمن مقاربة تسعى إلى فرض واقع ديمغرافي وسياسي جديد. في هذا السياق تتجلى استراتيجية تقوم على استنزاف القطاع إلى أقصى درجات الأزمة، مما يساهم في تحويل خيارات لم تكن مقبولة سابقًا إلى حلول مطروحة ضمن الخطاب السياسي الدولي والإقليمي. تضخيم الكارثة الإنسانية ليس مجرد نتيجة طبيعية للعدوان العسكري إنما يمثل أداة ضغط لإعادة صياغة المفاهيم المرتبطة بالقضية الفلسطينية من خلال الدفع باتجاه مقاربات سياسية جديدة تستند إلى تصفية تدريجية للحقوق التاريخية مقابل معالجات إنسانية مؤقتة. هذه الاستراتيجية تتقاطع مع مسارات التطبيع والتنسيق الأمني وتعكس إعادة تموضع في المواقف الرسمية لبعض الدول مما يطرح تساؤلات حول التداعيات المستقبلية لهذه السياسات على الوضع الفلسطيني والإقليمي.
في ظل هذه التطورات يجري طرح العديد من الحلول التي تركز على المعالجات الإنسانية المؤقتة والترتيبات السياسية طويلة الأمد. على المستوى الإقليمي يتم الحديث عن مبادرات تتعلق بإعادة الإعمار ضمن شروط رقابية صارمة وإمكانية إنشاء مناطق آمنة تحت إشراف دولي مع تزايد الضغوط لإيجاد صيغة إدارية جديدة للقطاع تتجاوز الأطر التقليدية للتمثيل السياسي الفلسطيني. هناك أيضًا سيناريوهات تتضمن إعادة توزيع السكان تحت غطاء الإغاثة الإنسانية مع التركيز على سيناء كمجال حيوي لاستيعاب أعداد من النازحين مما يثير إشكاليات قانونية وسياسية تتعلق بمسألة التوطين القسري وانعكاساته على القضية الفلسطينية ككل. إضافة إلى ذلك تتزامن هذه المسارات مع جهود لتعزيز الدور العربي والدولي في إدارة المرحلة الانتقالية في غزة، ومحاولة إدماج جهات فلسطينية في ترتيبات حكم جديدة ذات طابع وظيفي، دون منحها سيادة فعلية. وهذه التحولات تتوازى مع مساعٍ لتسوية أوسع تشمل الضفة الغربية، استنادًا إلى مشاريع قديمة مثل الكونفدرالية مع الأردن، وهو ما يثير مخاوف بشأن تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية عبر مراحل متدرجة.
في خضم هذه التحولات تصبح استعادة صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية ضرورة حيوية لضمان تمثيل حقيقي وشرعي للشعب الفلسطيني في مواجهة المخططات التصفوية المتزايدة. مع تزايد الضغوط على القطاع وتعزيز الحلول الإنسانية المؤقتة، يظل دور المنظمة في إعادة توجيه السياسة الفلسطينية محورًا أساسيًا للحفاظ على الحقوق التاريخية. إن غياب تمثيل فلسطيني موحد يعزز من فرص تصفية القضية من خلال مقاربات اقتصادية وسياسية تسعى إلى تجاوز الحلول التقليدية. استعادة صلاحيات المنظمة تتطلب إصلاحًا داخليًا يضمن تمثيل جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج ويعيد للمنظمة دورها كإطار فاعل في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. لذا لا بد من العمل الفعلي لتفعيل المنظمة كممثل شرعي وحيد لضمان وضع مواقف سياسية موحدة أمام المخططات التي تسعى إلى إعادة تشكيل الواقع الفلسطيني وفق متطلبات إقليمية ودولية تتقاطع مع استراتيجيات التصفية.
هذه التوجهات يمكن اعتبارها تنفيذًا غير مباشر للمضامين الجوهرية للصفقة من خلال فرض وقائع ميدانية تدفع باتجاه إعادة تعريف مفاهيم الحل النهائي، حيث يتم تجاوز المرجعيات التقليدية مثل حل الدولتين لصالح مقاربات وظيفية تعتمد على الإدارة المحلية المشروطة والاندماج الاقتصادي ضمن منظومات إقليمية أوسع. هذا التحول يتقاطع مع المسارات التي عززتها “صفقة القرن” لا سيما فيما يتعلق بتهميش الملفات السيادية وإحلال البعد الاقتصادي والإنساني كأدوات ضغط لإعادة هيكلة الواقع السياسي.
يبقى نجاح هذه الطروحات مرهونًا بالقدرة على فرضها كأمر واقع، في مقابل احتمالات تصاعد المواجهة على المستويين الشعبي والسياسي مما قد يعرقل المسارات المطروحة ويعيد خلط الأوراق على المستوى الإقليمي والدولي.


