إرتباط جيل التسعينيات بقضية فلسطين ومراحل تشكل الوعي
تأثير الإعلام ..قناة سبيستون ومسلسل سعدون أنموذجًا

نور حميد-البحرين
سأحكي بروح تلك الطفلة، متمردةً على الصياغة الأدبية والعربية الفصيحة الصحيحة، طفلة تكتب تعبيرًا بسيطًا تعبّر فيه عن مشاعرها، طفلة في المدرسة في أوائل فترة الألفينات، أتحدث عن ذكرياتي وكأنها قبل أسبوع مضى، أتحدث عن ارتباطي بشاشة التلفزيون وعلاقتي بقضية فلسطين.
كأبناء وبنات البحرين وتحديدًا جيل التسعينيات لنا ذكريات نشأنا عليها، أثمرت فينا منذ نعومة أظافرنا تضامنًا ونصرةً لهذه القضية، ودفاعًا شرسًا عنها ضد الأمر البسيط والمشكوك بأمره.
سأشارككم ذكرياتي والتي تتشابه مع ذكرياتكم في فترة المرحلة الابتدائية، فنحن لا نتذكر تحديدًا كيفية ومتى إدراكنا لوجود بلد إسمه فلسطين، لكننا نفهم بأن هناك في بقعة أرض بعيدة عنا، أطفال في مثل عمرنا لا يعيشون كما نعيش، لا ينامون مثلنا ولا يذهبون إلى المدرسة، أطفالٌ يعيشون في الخيام ولا يدرون هل ستشرق شمس الصباح أم سيبقى الظلام بخفافيش تصول وتجول حولهم، نحنُ جيل شاهد على الهواء مباشرة مشهد استشهاد محمد الدرة، قد يكون هو أول مشهد مؤثر نتذكره بدقة شديدة، وحينها يصرخ الأب: “مات الولد”..
افتتحت قناة سبيستون وكنت حينها في العاشرة من عمري، وهي بالفعل قناة شباب المستقبل، هذه القناة التي ساهمت في تربيتنا وتعليمنا وترسيخ مبادئنا كأطفال ليس أمامنا حينها سوى شاشة التلفزيون.
من منا لا يتذكر الأنشودة الثورية للطفلة: “طلقة.. تلو الطلقة.. اخترقت جسدي مثل يرقة”، ثم نرفع صوتنا معها لنقول: “كَذِبَ المحتلُ ولو صَدَقَ”، هذا ولانزال نسمع شارات المسلسلات التي لحنّها وغناها طارق العربي و رشا رزق وكيف تشعل حماسنا وروحنا الثورية منذ ذاك الوقت حتى اليوم، مثل شارة هزيم الرعد: ” أبرقي أرعدي ابطالًا وعدوك أنبل وعد.. جاؤوك بصوت الحق الهادر كهزيم الرعد.. بسيوف أقوى من نار عَرَفَت كيف الرد.. ما هُنتِ ولن تهني بل من أجلكِ ثار اشتد..
ماعاش الظالم يسبيكِ وفينا نفسٌ بعد .. بحنيني بدمي افديك وروحي تنبت مجد”، أجل هذا ماكنا نتعلمه ونحفظه إلى هذه اللحظة.
تتمثل آرائنا كبحرينيين في مسلسل ” سعدون” الشخصية الثائرة الرافضة للظلم والتي قدمها الفنان جمعان الرويعي، عاش سعدون في فترة جمال عبدالناصر وهي الفترة التي جاءت بعد عدة أحداث مستمرة لسنين طويلة، وسعدون يمثل الروح البحرينية النضالية والمثقفة والباحثة عن العلم والاطلاع، كان كتابه المرافق الذي أعطاه معلمه الأستاذ إبراهيم بحر “المعذبون في الأرض” لطه حسين، حتى تشكل وعيه وتعليمه تدريجيًا ليصبح قائدًا يتبع مبادئه، في الحلقة الأخيرة كانت خطبة جمال عبدالناصر ينتظرها البحرينيون في المقاهي والدكاكين والبيوت ، كما ينتظرون اليوم ما بعد عودة سعدون وكيف حاله الآن.. سعدون اليوم أيقونة بحرينية كتبها المؤلف راشد الجودر وأخرجها المخرج أحمد المقلة.
هذا المسلسل كان ضمن تشكيل وعينا ومبادئنا في فترة طفولتنا، كان يُعرض في فترة الظهيرة تحديدًا بعد عودتنا من المدرسة مباشرة، المدارس التي تعلمنا فيها حب فلسطين والاشتياق لها، فكان الطابور الصباحي ينتهي بتحية العلم وترديد شعار “تعيش فلسطين حرة أبية.. تعيش تعيش تعيش”، أعطتنا المدرسة المجال كأطفال نملك حق التعبير في الكتابة والرسم وحتى في الفسحة المدرسية كنا نهتف في الساحة “تعيش فلسطين”، وأذكر إنني كتبت على جبهتي بخط طفولي “فلسطين”، فحينها كانت بداية تعليمنا على خط الرقعة وفيه حرف السين يكون خطًا بلا أسنان، فكتبتها بخط قصير وعصا الطاء قصيرة فصارت “فلصين”،
لم تكن غرس الثقافة في البيت أو التلفزيون فقط بل كانت في المدرسة كذلك والفعاليات الثقافية، كنا نعلم ماذا حدث وما قصة فلسطين وردة فعل البحرينيين حين صَدَرَ قرار تقسيم فلسطين وماذا فعلوا أهالي المنامة والمحرق والقرى التي شهدت مظاهرات رافضة للتقسيم والاحتلال.
كنت أحضر الفعاليات الثقافية التي تصب في القضية الفلسطينية، يوم القدس ويوم التضامن مع أطفال فلسطين، كنا نرسم وكانوا يعرضون علينا في الشاشات مشاهد من أصدقائنا الفلسطينيين، إلى جانب المنصات الدينية والاجتماعية التي تقيمها الطائفتين الكريمتين في البحرين، والتي حصلت من إحداها على وشاح الكوفية، هو الوشاح ذاته منذ قرابة العشرون عام وانا أملكه حتى اليوم، ليس مجرد قطعة قماش صغيرة بل معناها وعمرها كبير وعميق في روحي.
أذكر إحدى المواقف التي لاتزال اليوم تأثر في داخلي وتُعيدني طفلة خائفة، في إحدى الليالي كانت المرة الأولى التي أرى فيها مسيرة أو تظاهرة، مررنا بالسيارة وفتحت عيني لآخرها خوفًا وأنا اسمع شعار ” من رام الله للبحرين شعب واحد لا شعبين”، الخوف نابع من المشاهد الصعبة التي شاهدتها في التلفزيون ومعرفتي بالقضية والوضع المرعب بالنسبة لي كطفلة، فخُلق شعور بالخوف في عقلي اللاواعي بأن ما شاهدته سيحدث هنا، ومن منا يستطيع إيقاف خيال الأطفال! .. سيطر الرعب علي فجلست في المكان الذي نضع أرجلنا فيه بالسيارة واستفرغت ما كنت قد أكلته..
هذا الشعور يعود لي حين أشاهد صدفةً شارة مسلسل “عدنان ولينا”، لكن لكم أن تتخيلوا بأن هذا المسلسل لم أتابعه قط حتى اليوم، فبدايته الحربية وأصوات الحرب تُذكرني بذاك الموقف وتلك الفترة، ليست لدي الجرأة لتحدي هذا الخوف ولا الرغبة بكَسره ليبقى هذا الشعور مستمرًا معي، لعله يجعلني أعيش مايعيشه أطفال غزة، هي عقدة لا رغبة لي بفكها لكي لا أعتاد المشاهد.
أتذكر “أناديكم.. أشد على أياديكم” والأغنية التي جمعت فنانين العرب “الحلم العربي”، التي تحدثت بصوتنا وكلماتنا: ” ده حلمنا طول عمرنا حضن يضمنا كلنا”، وحتى اليوم ها نحنُ أجيال ورا أجيال بتعيش على حلمنا، ننقل الصورة إلى الأجيال الجديدة لتبقى الفكرة تقاوم ولا تموت، لنخبر أطفالنا بالقصة ولا نكف عن سردها.
وصلت إلى المرحلة الثانوية وأسست فريق تطوعي لم يكن يخلو من إقامة فعاليات تصب في القضية وتثقيف الأطفال عبرها، كنا نلوّن الوجوه بألوان العَلَم الفلسطيني، كنا نصنع مجسمات القدس ونرسم اللوحات ونقرأ القصص، كانت الأناشيد والأغاني الفلسطينية حاضرة لتضيف الروح التي تربطنا بأرض السلام؛ فالموسيقى عابرة لكل المسافات وتصل من الروح الى الروح..
كان حلمي أن أكون مراسلة تحت القصف، كنت أتابع الأخبار والبرامج الحوارية، طفلة قد لا أدرك كل شيء لكنني كنت أدرك وأفهم، تشكل وعيي في مرحلة متقدمة بفعل الإعلام، ومشى حلمي معي، كبرت وأنا أشاهد شيرين أبو عاقلة، هذه القدوة التي كبرت لأكون مثلها، تخصصت في الإعلام ودرسته، لم يتحقق حلمي، لكني سأظل أتحدث عنه ” أن اكون مراسلة تحت القصف” وأنقل الحقيقة.


