“حين يُمتحَن الحرف ويُسبَر غورُه يُشرق المعنى”الحلقة الثامنة عشرة من ماء الكلام يكتبها وليد الخطيب

ليست اللغة أداة لوصف السطوح فحسب، بل هي غوصٌ في الأعماق، واستبطانٌ لما يختبئ تحت ظاهر القول. ومن الجذور التي تحمل هذا المعنى العميق: الجذر “س ب ر”، وهو في جوهره يدلّ على الفحص والغوص والكشف، لا بنظرة عجلى فحسب، بل باختراق ما وراء الظاهر أيضًا.
فالـ “سَبْر” في أصله هو الغوص في الماء، وبه سُمّي من يغطس في البحار لطلب اللؤلؤ “سابِرًا”، لأنه يفتّش في الأعماق عن الجواهر. ومن هذا المعنى المادي، نشأ المعنى الذهني “سَبَرَ أغوار الشيء” أي فَحَصَه فحصًا دقيقًا، وتبيّن مكنونه، وكأن المعرفة الحقيقية لا تُنال إلا سبْرًا، لا سطحًا.
ومن ذلك وُلدت مفردات أخرى مثل “السِّبْر، أو المسبار”، أي المِقدار أو الأداة التي يُقاس بها العمق، كما في سَبْر الجروح في الطبّ، أو الأعماق في البحر أو الفضاء. وهو عند العرب الامتحان والاختبار أيضًا، كما في قولهم: “سَبَره فوجد فيه خيرًا”، أي امتحنه فبان معدنه.
والـ “مُسْبِر” في اللغة هو من يخترق ظاهر الأمور إلى باطنها، سواء أكان طبيبًا يفتّش في جسم مريض، أم حكيمًا يستبطن سريرة الناس، أم عالمًا يغوص في المجهول… والمُسْبِر لا يكتفي بما يُقال له، بل يختبر ما وراءه، ويفتش عمّا يُخفى ممّا يُعرض.
وإذا كان الاستبصار رؤيةً بالعقل لا بالعين، يعني أن ترى سبرًا ببصيرتك ما لا يُرى بالبصر. فهو نوع من الحكمة، بل من البصيرة اللغوية التي تميّز الخداع من الصدق، والسطح من الجوهر…
كأنّ اللغة العربية – بهذا الجذر – تقول لنا أنّ الفهم الحقيقي لا يكون بتلقي الظواهر، بل باختراقها وأنّ المعرفة لا تُهدى بلا عناء، بل تُنتزع من غياهب الغموض، كما يُنتزع اللؤلؤ من قاع البحر. فالكلمة لا تُعرف بحروفها، بل بـ “سَبْر” معانيها. والإنسان لا يُقاس بظاهره، بل بما في غور نفسه من معدن.
فهل يمكننا أن نُمسك بسِبْرٍ نلتمس به عمق الأشياء؟ وهل نُتقن فنّ السبْر، في زمنٍ يغرق في السطح ويهاب الغوص؟
وإذا كانت اللغة تمنحنا هذا الجذر، أفلا تعلّمنا أن المعرفة لا تُؤخذ جاهزة، بل تُستخرج… سَبْرًا؟


