بيان “مقاومة التطبيع” في اعتصام “التغطية مستمرة”

بيان الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، في اعتصام “التغطية مستمرة ” المنظم في البحرين بمنطقة العدلية، الجمعة الموافق 28 أغسطس 2025.
نص البيان:
كتب الصحفي والروائي الفلسطيني المناضل الشهيد غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا:
” إننا حين نقف مع الإنسان، فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر”.
-غسان كنفاني
أيها الحضور الكريم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تستحضر اليوم كلمات غسان كنفاني لتؤكد على أن الإنسانية الحقة لا تقاس بالانتماء الضيق ولا تحدها الحدود المصطنعة، وقوقنا مع الإنسان المظلوم هو وقوف مع العدالة والكرامة والحق، أينما كان ومن أي أرض أتى إن واجبنا الأخلاقي والإنساني يحتم علينا أن ترتفع فوق الجغرافيا وفوق الأديان والطوائف والعرقيات، وأن نرى في معاناة الآخرين انعكاساً لمعاناتنا، وفي حريتهم جزءا من حريتنا.
هذا ما التمسته بالفعل خلال حضوري المظاهرة جماهيرية، بكل ما تعنيه الكلمة، في أحد شوارع لندن الرئيسية قبل قرابة أسبوعين كنت أسترق النظر لأحدق في وجوه من حولى في لون شعرهم، وفي لون أعينهم، ولون بشرتهم، فلم يخطر ببالي للحظة أنني محاطة بعرب تحديدا، أو بمسلمين فقط لقد كان الطيف الإنساني … كله حاضراً – أجناس متعددة، أعراق مختلفة، وأديان متباينة، ولكنهم جميعاً يهتفون بصوت واحد من أجل الحرية والكرامة لفلسطين وشعب غزة، طوفان بشري يهتف:
One-We are the people
Two-We won’t be silent
Three-Stop the bombing
NOW NOW NOW
فيقشعر جسدي، كان مشهداً لم أحضر مثله قط، مشهداً أبكاني وأحيا في داخلي يقيناً بأن الإنسانية ما زالت بخير.
لكن، ودون أن أقلل من قيمة وقفتنا هذه وإصرارنا على الاستمرار، ما شعرت به هناك عمّق في نفسي مرارة الخذلان والخيبة من واقعنا نحن. نعم ، نحن في أوطاننا العربية والإسلامية لم نرقَ بعد إلى هذا المستوى من الاعتصام الجماعي والتعبير الحر، لأننا ما زلنا أسرى الخوف، أسرى التردد والخذلان.
خوف مستشري، خوف متغلغل في أعماقنا. خوف يجعلنا أحيانا تتردد حتى في التصريح بمواقفنا البسيطة، كأن نقول علنا في دوائرنا الاجتماعية أو المهنية أننا ملتزمون بالمقاطعة. أو أن تقول لأصحابنا بأننا شاركنا في الاعتصام أو المسيرة عندما يسألون عما فعلناه خلال “الويك إند”. كأن هذا الإعلان جرمٌ تُخشى عواقبه، وكأن التعبير عن أبسط أشكال التضامن مع فلسطين خيانة لوظائفنا أو تهديد لأمننا.
لكن أيها الأحبة،
حين نتحدث عن الخوف، لا بد أن نستحضر مثالاً عظيمًا يفضح عجرنا ويلهمنا في آنٍ معا: الصحفي الشهيد أنس الشريف، الزوج الشاب، والأب لطفلين، كان يعلم تماما أنه مهدد بالاغتيال، كان بإمكانه أن يغادر غزة لينجو بنفسه، وكان من حقه أن يبحث عن ملاذ آمن بعيدا عن الموت الذي يترصده في كل لحظة لكنه اختار الطريق الأصعب أن يبقى أن يلتزم بوطنه وبمبادئه، وأصر أن “تستمر التغطية”.
وأن يواصل نضاله من أجل شعبه، نضاله من أجل أن يوصل للعالم عمق المأساة وقطائع الإجرام الصهيوني، أمر أن الكلمة الحرة قد تكلف الروح، لكنها لا تشترى ولا تباع.
لم يخف من التهديدات، ولم يساوم على كرامته ولا على أرضه دفع حياته ثمنا لموقفه، لكنه ترك لنا درسا خالدا: فإذا كان شاب مثل أنس الشريف قد واجه آلة القتل بصدر عار وإيمان لا يتزعزع، فكيف لنا نحن، ونحن آمنون، أن نخاف من تصريح بمقاطعة ؟ أو من كلمة حق في مجلس ؟ أو من وقفة احتجاج سلمية ؟
إن دماء أنس الشريف، ودماء كل الشهداء، تصرخ في وجوهنا لا مجال للخوف بعد اليوم.
فلنعلنها واضحة: نحن مع الحق حيثما كان، ومع المظلوم أيا كان للرفع أصواتنا، ولنكسر قيود الصمت، ولنجعل من حضورنا اليوم بداية لعهد جديد لا مكان فيه للخوف، ولا مجال فيه للتردد.
إن الحقيقة أقوى من الرصاص، والإنسانية أبقى من الحدود، والعدل آتٍ لا محالة.
إنني من هذا المنبر أناشد أولا حكومة البحرين بالسماح لشعبنا بالتظاهر والاعتصام في وسط العاصمة وإيصال صوت شعبنا بوضوح وبأعلى صوت، والقيام بكافة مظاهر الاحتجاج السلمية.
أتوجه لمختلف قطاعات شعبنا ومؤسساته المدنية بالمشاركة الفاعلة والواسعة في وقفاتنا هذه، فأين الاتحاد النسائي وأين اتحاد العمال وأين الجمعيات المهنية، وأين أنباؤنا ومثقفونا، بل وأين جمعياتنا السياسية والثقافية والدينية، من وقفاتنا السلمية هذه ؟
أتمنى أن يكون لقاؤنا في الأسبوع القادم حاشدًا وملينا بالوجود التي يوجه إليها هذا النداء، فها هي أصوات البرلمانيين في العالم تعلو من أجل غزة، وها هم يذرفون الدموع، يضعون الكوفية الفلسطينية، ويتظاهرون في الشوارع، فكيف تقبل أن يكون غيرنا أكثر حضورا وتأثيرا منا؟ هذه رسالتي، وأتمنى أن تحد صداها للرى ممثلي الشعب والجمعيات والنقابات في الصفوف الأولى معنا.
ختاماً نقول: رحم الله الإعلامي الشاب الشهيد أنس الشريف، الذي ظل طيلة المجاعة ينقل وجع المجوعين واستمر إلى أن رحل شهيداً مجوعاً، اللهم تقبله هو ومن قتل من زملائه الشهداء الأبطال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


