في الحرب وعنها.. نص: رغد حميد

“في الحرب وعنها”
بقلم: رغد حميد/ غزة
ربما لن ينتهي النهار هُنا، ربما لن يبدأ الليل، ربما لن نحلمَ بغدٍ أو بمنزلٍ دافئ، ربما لن نزورَ الحياةَ أو الأصحابَ، ربما ينامُ الأطفالَ بلا دُماهم وبلا أبائهم، ربما كل ما لا يحدث يحدث بلحظةٍ واحدة.
نخافُ أن نحلمَ بغدٍ مُبهج، بقلبٍ بلا وجع، بنوافذٍ سليمة، بعائلةٍ مُكتملةً، نخافُ أن نحلمَ فَتُمزقُ أحلامنا قذيفةً. الأحلامُ هنا عصيةً جداً، أصبحت ثقيلةً على القلبِ يا الله، أخافُ من أحلامي، أخافُ كلما راودني أملٌ ما أن يندثرَ فجأةً فيعودُ قلبي فارغاً، أخافُ من الأحلامِ المُمزقةِ، من الأحلامِ الكاذبة، ومن الأحلامِ الواهنة، لكن كيفَ لقلبِ طفلةٍ أن يصمدَ دون أحلام؟
أخافُ أن أُقبلَ وجنةً باردةً، أن أتلمسَ يدَ أصدقائي الزرقاء، أخافُ ألاّ تكتمل المائدة، أخافُ من ضياعِ الحُب بين المقابرِ وبين صفوفِ الشهداء، أخافُ من دمعةِ أمٍ وأبٍ وحبيب، نخافَ الموتَ لكننا نخافَ الحياةَ أكثر.
يخنقني نبضُ قلبيّ المُتصاعدُ في حلقي، أتمني لو أنني أستطيع أن أقذِفُه خارجي لعدة ليالي، أتمني أن أفقد شعوري كي لا يؤرقني صُراخُ الأطفال ودموعهم، كي لا تتحطمَ داخلي الجُدران، كي لا أبكي كلما رأيتُ شهيداً، كي لا أغبطُ الموتى، وأُشفقُ على الأحياء.
لا أود أن أفقدَ الشعور رغم أنه مؤلم، أخافُ أن يصبحَ كل هذا اعتيادياً، أخافُ ألاّ يأكلني الألم، أخاف أن أموتَ من الداخل، أخافُ أن أُصبحَ دميةً ممزقةً بلا قلبٍ.
كيف لحقيبةٍ واحدةً أن تتسعَ لعائلةً بأكملها؟ كيف أوظب حجارةَ المنزل، الذكريات، الأشعارَ الضائعةِ، الضحكاتِ، الدمعاتِ، دعواتِ أمي، تجعُداتِ يد أبي، أحلامُنا، أوراقنا، صوراً لأشخاص لا أعرفهم، أشرطةَ أم كلثوم وكاظم الساهر، رسائلاً مدفونةٍ بين شقوقَ البيتِ، أصوات الصباح، كيف يا الله لحقيبةٍ واحدة أن تتسع لكل هذا؟..
هذا الألم أكبرُ من الكلمات، رجفةُ المنزل ورجفةُ صدري أكبر من الكلمات، كيف لي أن أصفَ الصوت؟ كيف لي أن أصفَ بُكاءَ الأرض وأنينَ الحجارة وخوف الأطفال؟كيف لي أن أصفَ مشهدَ تجمُعِنا مثل علبةَ السردين في غرفةٍ نظنها الأكثر أمناً؟.