مقالات

وجهٌ جديدٌ لغسّان كنفاني..”فارس فارس” مقالات من ديناميت

بقلم: المتوكل طه

 

سنكتشف،بدهشةٍ،وجهاً جديداً،ضاحكاً بسخريةٍ مريرةٍ،لواحدٍ من رموز أدبنا الفلسطيني،وهو غسان كنفاني،الذي يعدّ من أوائل المؤصّلين،بوعي عميق مختلف،لغير مكوّنٍ في حراكنا الابداعي،من رواية وقصة ومسرح،مروراً بقراءة التاريخ وسبر غور الظواهر الأدبية والوطنية،وصولاً إلى المقالة والخطاب الميداني،عداك عن دوره القياديّ المحوري في العمل المقاوِم المباشر،الذي عرّضه للاغتيال من قبل الاحتلال الصهيوني.واعتُبر غسان،لهذا كلّه،أيقونةً للخَلْق والتجلّي والثورة،التي أرهص لها وبشّر بها،وواكبها،وكان حاديها الأبرز والأكثر سطوعاً،بقلمه ودمه.غير أننا عرفنا غسان أديباً وفدائياً،طبّق الآفاق،لكننا لم نتعرّف على جانبٍ مُشعٍ من تجربته؛وهي تلك المقالات التي كتبها منذ العام 1965 إلى العام 1972،في غير جريدة لبنانية.

“فارس فارس” مقالات من ديناميت،ألقاها غسان في أحضان المتلقّين،ليفزّوا من رتابتهم الكسولة،وينتبهوا..متّخذاً السخرية مركباً ليشقّ عباب الساكن،وليحرّك الجوارح،ويدفع العقل إلى الانتباه الواجب.وأرى أن الحياة هي المفارقة الأولى والأخيرة،وفي قلب المفارقة تشعّ السخرية بمرارة وفكاهة وجنون،أي أن السخرية هي روح المفارقة وشرايينها ونسغها.والمقصود بالسخرية هنا ما يدعو إلى التعجّب أو الذهول أو المفارقة أو الضحك أو المفاجأة أو الاستخفاف أو التعرية والتشهير.

وأعتقد أن السخرية هي “أدب” العامة.أما المفارقة،فهي “أدب” الخاصّة أكثر من العامة من الناس،وهذا ما يوضح طغيان السخرية وانتشارها،في حين أن المفارقة لا تشيع شيوع السخرية والنكتة والفكاهة.

والسخرية أداة مقاومة شعبية ثقافية ضد القمع والاضطهاد والقهر الاجتماعي والسياسي وتصبح –كفنٍّ شعبي– أكثر إضاءة في وجدان الجماهير،وأكثر تفجّراً لمعاناتها وشقائها وأحلامها المقتولة.

وتتقاطع السخرية والفكاهة في إثارة الضحك.لكن (ضحك) السخرية خشن ومرّ ولاذع ومتشفٍ،في حين أن (ضحك) الفكاهة صافٍ ناعمٌ متعالٍ،لأن السخرية فنّ يختلف عن الفكاهة اختلافاً جوهرياً، فالسخرية تهدف إلى المواجهة والتعبئة والتغيير،في حين “تترفّع” الفكاهة لتبقى عمق الموقف الرسمي “الأرستقراطي”، فالنكتة بالنسبة للحاكم أو لرأس أيّ بنية اجتماعية ثرية أو متسلّطة،لا تعدو كونها وسيلة ترفيه وترويح عن النفس الغاصِبة المستبدّة،عدا أنّ الطبقات (العليا المُرفّهة) جعلت من الطبقات (الدنيا الفقيرة) مادة نكاتهم ولهوهم،بل تعدّوا ذلك بأن سمعنا عن عدد من الأمراء والحكّام الذين استعانوا (ببهلوان) في قصورهم بهدف اللهو والهزل والمجون.ولهذا قام الفقراء والمسحوقون بالردّ على فكاهة القصور بسخرية الجوع والقهر والاضطهاد والانتقام.إن ضحك “الضحية” بذلك يختلف جذرياً عن ضحك “الجلاد”.فالضحية تقاوم وتعبئ ضحكتها بمضامين التمرد والتململ والثورة،فيما يكرس الجلّاد حالة اللهو فحسب،ومن هنا وُلدت السخرية السياسية والكاريكاتور ضد الحكام والسلاطين ورموز القهر والتجويع،وامتدت السخرية لتتناول كل مصادر الاضطهاد والخلل والقمع والإذلال،وبدت كأنها الضحك الأسود،ووسيلة المغلوب على أمره،وسلاحه الممكن الذي يوظّفه ضد خصومه.

وأرى أن غسان كان على بيّنة وإدراك للسخرية،وخصوصا أنه الداعي إلى نقل  فنّ السخريّة العربي المعاصر من تخوم التّهريج إلى مستوى النَّقد السِّياسي والاجتماعي والفلسفي.كما أنه الذي قرر بأن الأدب السَّاخر ليس تسلية،وليس تزجيةً للوقت ولكنَّه درجة عالية في النَّقد،وكان على المؤلّف أن يقدّمه كضرورة.. فالسّخريَّة الهدَّامة سهلة بالمقارنة مع السّخريَّة البنّاءة،فالأخيرة تحتاج إلى وعيٍ أعمق وثقافة أوسع ومقدرة أكبر على فهم روح القارئ ولا وعيه ونفسيَّته،لهذا يقولكنفاني:إنَّنا في الحقيقة شعب ضاحك،لدينا مقاييس عسيرة للنكتة،أساتذتها في الواقع!ولذلك فإنَّ مهمَّة الكاتب السَّاخر هي أن يعي هذه الحقيقة ويظلّ في مستواها،بل متقدّماً عنها.ثمَّ إنَّ السّخريَّة ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء،ولكنَّها تشبه نوعاً خاصّاً من التَّحليل العميق.

إنَّ الفارق بين النكتجي وبين الكاتب السَّاخر يشابه الفارق بين الحنطور والطَّائرة،وإذا لم يكن للكاتب السَّاخر نظريّة فكريَّة فإنَّه يضحي مهرِّجاً.ثمَّ إنَّ السخريّة ليست في إيراد التَّعبيرات المضحكة ولكن في الأسلوب الذي يشعر المرء،من الأوَّل إلى النِّهاية،بكرباج الابتسامة الجارحة يعمل في الموضوع نقداً عميقاً،وكي يستطيع الكاتب أن ينقد بسخريّة فإنَّه أوّلاً يجب أن يمتلك تصوّراً لما هو أفضل،أو لما كان يجب أن يكون.

إنَّ السخريّة تعطي،عن طريق الضَّحك،نقداً يلخّص المشكلة بأفضل من مليون مقال،ويعطي فكرة عنها من الأوَّل إلى الآخر،وهي أقرب ما تكون إلى التَّحليل والاكتشاف منها إلى تركيب المقالة.

ويوضح غسان بأنَّ الجملة السَّاخرة الأفضل هي الجملة التي يبذل فيها جهد أكثر،فالسخريَّة ليست مثل المنشور الحزبي،لأنَّه حيثيَّات وشروح وشعارات ومليء بالكلام الذي قيل سابقاً،ولكنَّه من النَّوع المختصر الّذي ينفجر مثل القنبلة،فيهزّ القارئ ويفاجِئُهُ ويحرِّك في رأسه الرَّاكد عشرات من الصُّور والتخيّلات.

وأعتقد أن غسان كنفاني واصل مسيرة الشاعر ابراهيم طوقان،صاحب أول مفارقة وسخرية،في الأدب الفلسطيني المعاصر قبل النكبة،وبهذا فغسان وريث طوقان،وقد ترسّم خطاه في هذا البرّ الشائك،الساخط على السماسرة والصحافة الصفراء والقيادات الخائنة والقول السخيف.بمعنى أن طوقان هو أول مَن قدح شرارة السخرية والمفارقة،بل والثنائيات في القصيدة،فضلا عن أنه أول مَن خلَّق ترابيّة المقاومة في الشِعر الفلسطيني الحديث.ويعتبر غسان القنطرة التي حملت السخرية على متنها لتصل بها إلى تخوم جديدة واعدة.

أما على المستوى العالمي فثمة عزيز نيسين،التركيّ الساخر الفريد من نوعه،والذي ضخّ السخرية في جسد نصّه القصصي،حتى بدا وكأنه مصقول ومحمول على المفارقة وفائضا بها.وثمة جورج برنارد شو الكاتب الإيرلندي،الذي أرى أن ثمة خيطا ذهبيا يربطه مع غسان كنفاني؛فكلاهما ساحَ في غير موضوع،وكانا ناقدين مسرحيين وأديبين ساخرين،ثم أن كليهما كان من دعاة الإشتراكية ويتمتعان بحمولة معرفية هائلة وكبيرة،مكنتهما من أن يتركا بصمتين عميقتين على جدار المعرفة الإنسانية والثقافة البشرية.وإذا ما رأينا الذي كتبه برنارد شو في بيوت الأرامل،أو جان دارك،أو الشيطان أو المسيح ليس مسيحيا،أو الميجر باربرا،وبجماليون وكانديدا..عداك عمّا تركه في النقد،سنجد أن ثمة تشابها يجعل من برنارد شو وغسان كنفاني توأمين.

أما المشترَك الآخر بين شو وكنفاني فإن الأول مال نحو التكثيف والحكمة،وكأنه يريد أن يقدّم خلاصة مقطّرة تختصر الكثير من الكلام،ما جعلها اقتباسات لامعة تتناقلها الأقلام والألسن،أو شعارات تصلح للتربية والتوجيه والضبط،فيما راح الباحثون ينقّبون عن تلك الجُمل التي تشبه الرصاص،من تضاعيف أدب غسان،حتى باتت مقولات شائعة،تنفذ سريعا نحو المتلقّي،وتختصر الإجهاش والوعظ والكثير من التنظير.ونرى في فضائنا الكثير من نماذج السخرية،قديما وحديثا،نصا وشعرا ونثرا،بالفصحى والمحكيّة،اعتمدت على الدعابة السوداء أو الهزل والتندّر والتهكم؛من المقامات العربية ومفارقات المعرّي الفلسفية وإخشيديات المتنبي ولسعات الجاحظ والشاعر الخبزأرزي وابن لنكك،عبورا إلى المازني والبرّدوني وألبير قصير ونديم محمد وموباسان والنجفي وتوماس مان،وصولا لزكريا تامر ومارون عبود وعلي سالم وأمير تاج السرّ وأحمد رجب ومحمود السعدني ومحمد طمّليه وأحمد مطر ومحمد الماغوط وأحمد فؤاد نجم وعزيز الشعباني وعبد اللطيف عقل وحسن كمال وخالد القشطيني وشمران الياسري..عداك عمّا وصلنا من مسرح وكاريكاتور وسينما ونكات،أو ما وصلنا إليه في ال”ستاند كوميدي”.

إن اليوميات المكثفة نسبيا والقصيرة،التي كتبها غسان (أبو فايز) في جريدة المحرر خلال العام 1965،تعتبر التجربة الأولى له في تناول ونقد جوانب من الحياة،بسخرية ظاهرة لافتة،جعلت منه،لاحقا،سيّد النقد الساخر وعنوانه العريض،ودون منازع.ولعل غسان يتميّز بقدرته الفذّة على تذويب المقولات الكبرى وجعلها بسيطة دارجة، وأنزلها إلى الشارع والعوام،دون أن يفقد الحساسية الفنية العارفة والأنيقة،وقد نجا لغير سبب؛الأول أن نصّه يزدحم بالمعرفة الوافرة، والثاني أنه لم يسقط في الثرثرة والمباشرة،بقدر ما لاحق “الفكرة” فأضاءها وفكّكها وعالجها،وخلق لها ضفافا جديدة مبهرة،وأمدّها بقوادم لافتة قادرة، لتجنّح بها في آفاق مفاجئة،وشحنها بتكثيف جامعٍ استمدّه من تلك اللغة المحكيّة أو المقولات الشعبية الحادّة.يقول:(إنَّ الوعاء الشَّعبي وعاء عميق،شديد العمق،ولا يستطيع أن يغرف منه إلاَّ من كانت له موهبة الغَرْف من أعماق الحكمة الشعبيّة العريقة. إنَّ الفولكلور تاريخ من الفلسفة التي تجمع بين البساطة والعمق والجمال،والجمع بين هذا الثلاثي لا يمكن إنجازه في جرن كبّه،أو لدى مصمّم أزياء،أو بكيّ طربوش عتيق.)

إن هذه التركيبة،غير المعهودة التي تتفجّر معرفة ومفارقة،وتضجّ بالسخرية المرّة والحرقة،وتحمل موقفا يعرف وجهته،ما يميز مقالات غسان،بمجملها.ولا أقول بأن غسان قد مهّد لمعارك أدبية، لكنه استدعى العديد من الردود التي أوجدت صخبا نافعاً، وجدلا..ساهم،بالضرورة في نبش المسكوت عنه،وأثرى النقاش المثار.

إن مقالات غسان،تغنيك عن قراءة عشرات الكتب،من كل نوع وروح ومضمون وأسلوب،ويمدّك بعناصر الدخول إليها،ويأخذ بيدك ليعلّمك كيفية التلقّي،وينبّهك إلى الملتبس فيها،ويكشف ما اغتمّ منها، ويتداعى..ليسرح بك في حقول جديدة تتصل بالموضوعة الأولى، ليوسّع المعنى،ويفيض بالأضواء،ليعرف القارئ مكانه ودوره..كل ذلك بسلاسة شائقة جاذبة،تعرّفنا على مقطع عريض من الحياة الثقافية والسياسية والفكرية العربية،وخاصة في لبنان،قبل ستين سنة،وما كان يدبّ حينها من نتاجٍ ومصطلحات ومقولات وفهم وآراء.

إن غسان في هذا الكتاب،على الأقل،يذكّرنا بالكُتّاب الموسوعيين الأوائل،مثل الجاحظ،في”البيان والتبيين” و”البخلاء”،وبأبي حيّان التوحيدي سيّد السخرية،في “الامتاع والمؤانسة”،إلا أن غسان كنفاني أكثر معرفة واتصالا بما صدر،تراثيا وعالميا،ممن سبقوه، وربما ما يجعله واحدا من أهم مثقفي وعارفي وكتّاب العرب،في عصره.

ولننتبه!فقد كتب غسان جلّ مقالاته بعد نكسة حزيران 1967،ما يعني أنه واجه الغثاء السائد الذي دفع إلى النكسة،كما قدّم،بوعي مسبق،مناجزاته الفكرية العميقة،وهو يناقش عناوين بارزة في الأدب والفكر،أمثال العبقري يوسف ادريس وصادق جلال العظم وكتابات ماو تسي تونغ وكتب النقد والتاريخ والسياسة،علما أن غسان لم يترك شاردة أو واردة،من أدب وفن وفكر وسِير وفلسفة وصحافة،بغير لغة،وعبر كل جغرافيا العالم،ومن خلال المطبوعات من كتب وجرائد وكتيّبات ومقالات..إلا وتصدّى لها،وكان يعرف ما الذي يقوم به.إنه يتغيّا تحقيق نظرية نقدية أدبية فكرية،نرى أجنحتها تدفّ في ثنايا المقالات، وبإمكان باحث حصيف أن يلمّ مكوّنات هذه النظرية ويضعها كاملة أمامنا (أنظر مقاربته ما بين الجواهري وقبّاني،ومعين بسيسو،وكتاباته عن نيرودا وستريندبيرغ وإبسن.

أنظر إلى ما يقوله عن قصيدة النثر:هنالك كما يبدو علَّة كبيرة لدى كتّابنا،وهي اعتقادهم أنَّهم إذا أطلقوا على شيء ما اسمَ شعر فإن ذلك يعتبر بمثابة جواز مُرور إلى المجد.لماذا؟الشّيطان نفسه لا يدري،ولكنّه يطيب لنا أن نسمّي هذه الظّاهرة “بالظّاهرة الجاهليَّة”،حين كان النّاثر يُعتبر شخصاً عادياً.إنَّ هذا “الاحتقار” للنثر يدفع ببعض كتّابنا إلى صنع طائرة شراعيَّة يسمّونها “قصيدة”.كأنّ المشكلة تكمن في التّسمية،وأنا شخصياً لا أعرف لماذا لا يكون النّثر أحياناً وغالباً أروع من الشّعر،وهل من الضروري أن يقطع الكاتب سطوره إلى أنصاف ثمّ يطلق عليها اسم شِعر؟وهل تستطيع التّسمية أن تعطي الشّعر صفة النّثر أو النّثر صفة الشّعر؟إذا كان الأمر كذلك فكيف استحقّ ماركس وانغلز كلَّ ذلك المجد مع أنّ “البيان الشّيوعي” ليس قصيدة؟فلذلك كلّه،أيّها السّادة،قررتُ أن أخرج عن طابع الزّاوية هذه المرّة على الأقل لأبرهن لأولئك الّذين يعتقدون أنَّ الله سبحانه وتعالى خلقني شتّاماً أنَّهم مخطئون،وأنَّ الّذي يجعلني أشتم هو نوع الإنتاج الأدبي الّذي يستحق الشّتم،فأنا في الواقع مرآة للأشياء،ولست مطبّلًا مزمّراً لها.إنَّ العمل الفنّي – استطراداً – هو محصلة لفعل وردّ فعل:فعل العمل الفنّي ذاته،وردّة فعل قارئه.وفي أحيان كثيرة يدخل عنصر ثالث إلى هذه المعادلة المبسّطة وهو عنصر “الجوّ الزّمني والمكاني” الّذي تجري من خلاله عمليّة التّزاوج بين الفعل وردّة الفعل.

ويقول عن شاعر مدّعٍ:يرتفع في أدائه الشِّعري من مستوى مزيكة حسب الله إلى مستوى طرفة بن العبد! إنَّ هذا السّؤال يطرح نفسه كالكرباج في كل سطر..ولكنّه يضع مفرداته مثلما يستخدم الجواهرجي أفضل لؤلؤة لديه في تزويق قبقاب..ويبدو كمن يشعل عود ثقاب دون أن يكون بين شفتيه سيكارة!.

ويضيف في مكان آخر:من المعروف أنَّ العمل الفنِّي،وعلى وجه الخصوص القصَّة القصيرة،هو عمل ينجز الكاتب نصفَه،ويترك النِّصفَ الآخر للقارئ.والبراعة الفنِّيَّة هي أنْ يستطيع الكاتب بطريقة غير مباشرة إعطاءَ القارئ كلَّ المفاتيح الَّتي تستطيع أن تدلّه على أبواب وطرق ومسالك ذلك النِّصف غير المكتوب في القصَّة.

وعبر تداعياته النقدية “يلسع” شاعرا بقوله:إنَّه شيء يشبه أن يقوم بابلو نيرودا برفع دعوى على معين بسيسو،لأنَّ الأخير لطش من الأوَّل صورة شعريَّة عن “الأشجار الّتي تموت واقفة”. وغسان سبّاح ماهر غاص في محيط التراث العربي،ووقف عند حمولته الباذخة،فعرفها وهضمها،وها هو ينتصر لها في مواجهة الشِعر السطحي الحديث،لشاعر أوقف كلامه على اللذة،في حين لم يأت بما أتت به قصائد العرب العصماء الأولى.

وعن أحد السياسيين يقول:مناكفاً شريفة فاضل الَّتي تنصح كلّ يوم بأن لا يبيع المرءُ الماءَ بحارةِ السقّايين!.ويتجلى غسان وهو يشرح كتابا لنزار قباني- وليس بالضرورة أن نوافقه الرأي – ويفككه حتى يعريه،أو بالأحرى يكشف خواء أفكاره عن الشِعر والمرأة والجنس،وخصوصا وهو يقاربه مع فرويد ومايكوفيسكي وعزرا باوند وإليوت وبوشكين،وعلاقة كل ذلك بمفهوم البراءة والطفولة.

كما حاول أن يعيد تقعيد المصطلحات وإعادة تأصيلها على أسس قويمة منتمية،حتى لا نقع ضحايا القواميس المعادية.وأدرك ضرورة ملاحقة ما يصدر في دولة الاحتلال من أدب وسياسة ومواقف،فتصدّى لها، وكان رائدا في هذا الأمر،مثل ما كتبه عن كتاب “نمر من ورق” الذي ضمّ رسومات كاريكاتورية للإسرائيلي أوري بن يهودا،وكتاب “سقوط القدس”،أو ما نُشر في صحيفة معاريف المسائية،أو مقابلة وزير الحرب ديّان في محطة بريطانية، أو رواية “مين أنا” لدافيد زوطا – أنظر كيف تناول اسم زوطا..زيطة، أي مفارقة الأسماء..الخ – وغسان في كل ذلك يعرف ما تتضمنه الاصدارات الإسرائيلية من دفقات إعلامية،تتكئ على الدعاية الملفّقة والهولوكست ومقولات شعب الله المختار،والتي ينبغي فضحها ومواجهتها،عداك عن تناوله للروايات الاسرائيلية والأمريكية المسمومة،ونراه يؤكد،بحق،بأن ما سيصدر في دولة الاحتلال إنما يتمّ بتوجيه أمنيّ مشبوه.ولعل آخر  مقال كتبه غسان قبل اغتياله،أوضح فيه،قبل غيره،انحياز الإعلام الغربي للقاتل الاسرائيلي المحتلّ،على حساب الضحية “نحن”،وبأن “الفبركات” و”التبريرات” الصحفية تقف خلفها قوى ومطابخ توجّه الإعلام، وتجعله سلاحاً شريكاً في المعركة الظالمة ضدنا.

ثم يقف في وجه السيولة الفنية السطحية،كالأغاني الهابطة التي تحتقر المستمع،والمسرحيات الشكلية الزاعقة،ووضع أرضية للفن، أو للتراث والفلكلور،ليحقق غاياته السامية من إمتاع وأثر،فنراه يقول:هل الأغاني التي يجلدوننا بها هي مستوانا الفنِّي؟أم أنَّ الطرب – مثل السّياسة – هو مهنة العاطلين عن العمل في هذا البلد؟

لو كان لدينا ذرّةٌ من الكرامة لاعتبرنا أنّ َالتزييف المرعب الّذي يجري بصفاقة لوجهنا الفنّي وهذا التّزوير والتّسخيف والتّشويه والشّرشحة والرّخص هزيمة يمكن أن نسمِّيها “5 حزيران الفنِّيَّة” فهي ليست أقلّ تسبّباً للخجل والعار من تلك!إنَّنا نرفض أن تكون الأغاني الّتي تقدِّمها إذاعتنا هي وجهنا الفنّي،ونعتبرها إهانة تنزل بنا:شعباً وحضارة وذوقاً،نعتبرها تشويهاً متعمَّداً ومقصوداً لقيمنا ومستوانا،وابتذالاً لكلّ ما هو خير وجميل ونبيل في حياتنا،بكلمة أخرى:مؤامرة خطيرة على صعود جيلنا الفنّي،وتسليط دكتاتوريَّة رخيصة على أخلاقنا،إفسادنا وتشويهنا،وتحكيم حفنة مِمَن لا يمثّلون قيمنا في أثمن ما نملك.

وراح غسان يناقش بعض المكوّنات الاجتماعية،فنراه،مثلاً،يناقش الأخلاق باعتبارها عتبة السلوك والقانون الحاكم،يقول غسان:ما هي الأخلاق؟سؤال عويص جدّاً،ولكن الجواب عليه يتعلّق حتماً بالفضيلة،فالأخلاق هي أن يكون المرء صادقاً – مثلاً – وأميناً، شجاعاً،كريماً،شريفاً،شهماً،نظيفاً.واللّاأخلاق هي أن يكون المرء كاذباً،لصّاً،مرتشياً،بخيلاً،قذراً،خدّاعاً.ولعل نقاشه العميق ذاك حرّك المياه الآسنة،ودفع نحو عصف ذهني وفكري إيجابيّ.

واستدار كاتبنا ليناقش العديد من الظواهر الأدبية مثل شِعر الصعاليك،باعتبارها حركة تمرّد ثورية على البناء العرقي والطبقي والاجتماعي،وما تواشج معها من نظريات كالوجودية،نقيض وجوديّة جان بول سارتر المصلحية،وربطها بما يمور من نتاج مشابه في تاريخنا كحركة القرامطة،على حدّ رأيه الذي نخالفه تماما،أو في ما يماثلها من قصائد لغارثيا لوركا.يقول:وفي رأيي أنَّ شعراء الصَّعاليك كانوا صوتَ الضَّمير الحيّ والشجّاع للثَّورة، وطلائع حركات تقدّميَّة كان من سوء حظّها وطالعها أن تفشل دائماً..كانوا يمثّلون رفض المضطهدين للاضطهاد،وثورةَ المسحوقين – اقتصاديّاً واجتماعيّاً وعرقيّاً – على الطَّبقة الأرستقراطيَّة المتحكّمة بالدّم الأزرق وبسطوة التَّقاليد المهترئة والتحكّم الطّبقي.لقد كانوا أصحاب رأي تقدّمي وثوريّ،ومقاتلين من أجله إلى حدود الوحدة والموت.وكانوا كذلك رجال حروب العصابات الصَّحراويَّة،ولكنَّهم فوق ذلك كلّه كانوا شعراء من الطِّراز الأوَّل!.

إن تنوّع المواضيع والعناوين والقضايا التي أثارها وتناولها غسان تدلل على عبقريته وموسوعيته،ومعرفة أين يقف إزاء ما يرغي أمامه ويقع.فكنفاني المنتبه إلى كل ما يدور حوله من همهمات وصحافة وكتب،تتعالق مع واقعنا العربي،نراه يتناول كتاب “شواطئ الحب الأكثر وحشية”،الصادر في لندن العام 1954، مثلا،والذي يتناول أربع سيدات أوروبيات اقتحمن بأجسادهنّ عوالم المسؤولين العرب،وكنّ جسوسات يخدمن الاستعمار،ليؤكد أنهن سبقن لورنس العرب وأعمدته السبعة.ويقتحم غسان مناقشة كتاب “رايش” في علم النفس،الذي يتناول  غير تابو محرّم لدينا،يتعلق بالجنس وارتباطه بالطبقية والاستهلاك والقمع والتضليل..ليصل إلى نتائج معاكسة،تعيد الفهم القويم إلى البداهة الإنسانية.

وثمة ما يثير في كتابات غسان،وخصوصا عندما يتحدث عن بداية صعود ماركس وانجلز،وكيف بدأ  كلٌ منهما شاعرا رومنطقيا،وليتحولا،لأسباب موضوعية لاحقاً،إلى مفكرين قادا ثورة عارمة في الكون.إنها تفاصيل مدهشة عارفة قدّمها غسان،تعكس متابعة حصيفة ودقيقة!

ويلفت نظر كنفاني مقال في صحيفة أمريكية تتناول الأضرار الكثيرة المتصلة باستعمال “أكياس البلاستيك” للقمامة،وتداعيات ذلك على القطط والفئران ورأس المال!إنه الساخر الذي يعالج الظواهر بالصدمة المضحكة..وإنه لأمر مضحك..مفيد!

كما إنه ناقد شمولي لكل المقولات الخطأ المفجعة،ويجأر في وجه هذا التخلّف الذي استشرى.

ونراه يعثر على مجلة أمريكية نشرت ثلاث قصائد لسجين عربي شاب في سجن هناك،فيترجمها غسان ليقول:إن ذاك الشاب إرهاصة ناتئة تحاول عبر قصائدها الشاتمة أن تنتصر للثورة وتقود إلى المستقبل.إن غسان،هنا،معنيّ بالجميع،وينحاز للمظلومين المُهمّشين المنسيين!

ويدور ويقطع الحدود،فنراه يتناول كتاب “ذيل الأسد” البريطاني،الذي يتناول مجمل الشتائم والنقد اللاذع للإنجليز،ما يعني أنهم أهل للشتيمة لفرط ما اقترفوه من فظاعات وجرائم!أو كتابا لشاب في بلدة لوند السويدية كرّسه لمقابلات ومحادثات مع عجائز، في إشارة إلى أن المجتمع السويدي قارب على الهرم،وكيف أن  كثيراً من الوقت المهدور لا يستفاد منه،وخاصة من الذين راحوا إلى “التقاعد” وهم في أوج قدرتهم على العطاء.وهنا نكتشف انتباهة غسان إلى الفكرة الوجودية المتعلقة بوجود زمنين في وقت واحد، وأهمية التصدي لكل آليات قتل الوقت.

ويبقى غسان مشدودا إلى بؤرته الفلسطينية،فنراه يتناول تجربة أحمد الشقيري في منظمة التحرير الفلسطينية،ويكشف خواء “الشقيرية”..ما يجعل غسان يصيح:بأن فلسطين خسرت الشقيري أديبا وربحته سياسيا،ليصل غسان،بعد ذلك،إلى نتيجة مفادها أننا خسرناه على كل المستويات بسبب دعاويه القاصرة.

باختصار؛إن المساحات الوسيعة التي عبرها غسان،والموضوعات غير المحصورة التي تناولها،بحذاقة وسلاسة ومعرفة ودقّة،ومن زاوية ناقدة ساخرة..تثبت أن هذا الكاتب المتفرّد بحمولته وأدواته،استطاع أن يؤسس لفن المقالة الساخرة،بصيغتها الجديدة،وبثوبها القشيب المتين اللاهب،البعيدة عن الافتعال والذهنية وتقصّد إثارة الضحك الكميّ.لقد حقق كنفاني حضورا و”كريزما” في كتابه هذا،يجعل منه ما يحقق معنى مقولة ماكس فيبر “واحد من محرّكات التاريخ”، ولو على المستوى الفلسطيني، على الأقل.

وتحضرني الرواية الفرنسية “جلد الحُزن” التي هجست بفكرة أن مَن يمتلك ذلك الحرز السحري،الذي يحقق له كلّ أمنياته، تماما مثل العفريت الطالع من السراج،سوف يدفع مقابل كل أمنية تتحقق جزءا من سنوات عُمره..بمعنى أن كنفاني كان كلما أعطى وكتب وحبَّر وناضل..كان يدفع جزءا من سنواته،ما يفسّر رحيله المبكّر..لكثرة ما بذل وقدّم وأعطى!والعزاء أن ما تركه غسان الفذّ المقاوم التقدميّ المثقف العارف الجامح..ما فتئ يسعى بيننا،أو أننا ما زلنا نمشي تحت ظلال أشجاره الساخنة،وفي غابته الماطرة الفوّاحة اليانعة.

بقي أن نشير إلى أن عددا مهما من الدراسات والأبحاث قد تناولت السخرية وضفافها،أنجزها المبدعون؛محمود محمد علي،نعمان أمين طه،سناء علي الحركة،سها السطوحي،نزار الضمور،جوي بيري،فاطمة حسين العفيف،علي البوحديدي،ستار بادي،سيمون بطيش،عبدالله الكدالي،رابح العوي،عبدالفتاح عوض،ألبير قصيري،وئام محمد أنس،هادي السيوفي،غنية النحلاوي،حامد عبده،عبدالحسين شعبان،آصف دريباتي،عبدالحليم حسين،هاني الخير،هشام جابر،سعيد أحمد غراب،وآخرون أثروا المكتبة العربية،وأضاءوا لنا السخرية بكل ما اتصل بها.

زر الذهاب إلى الأعلى