حين تصبح الكاميرا فعل مقاومة: سحر السينما في قلب القدس المحتلة

حين تصبح الكاميرا فعل مقاومة: سحر السينما في قلب القدس المحتلة
بقلم: هبة ماجد كلم(صحفية فلسطينية) -فريق البوصلة

لم تكن فلسطين يومًا بلد الصمود السياسي والإنساني فقط في وجه الاحتلال الصهيوني، بل كانت لتلك البلد المقدسة مواجهة شرسة في شتى النواحي إلى يومنا هذا، منها الناحية السياسية، وذلك من خلال مقاومة الفلسطينيين لتحرير الأرض والحصول على حق العودة والاستقلال، أما من الناحية الاجتماعية والثقافية فهي تندرج تحت المقاومة السلمية من خلال التحدث عن فلسطين وتراثها بشكل عام، وتراث كل بلدة بشكل خاص، انطلاقًا من الزي الفلسطيني وارتدائه كنوع من المقاومة في وجه هذا الكيان، مرورًا بالمحافظة على اللغة واللهجة الفلسطينية، وصولًا إلى المحافظة على غناء التهويدات الفلسطينية ذات الارتباط الوثيق بتاريخ فلسطين والأدب كذلك.
شهدنا منذ زمن قريب مقاومة من نوع آخر، وهي المقاومة الاقتصادية التي كانت وليدة 7 أكتوبر، أي حرب الإبادة الصهيونية على أهل غزة، وشملت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والغربية التي تدعم الكيان، ودعم المنتجات المحلية بالاعتماد على الاقتصاد المحلي.
لفلسطين تاريخ فني عريق، والسينما كانت لها جزء ولا تزال من هذا التاريخ، لذلك سنتطرق إلى قدر يسير من تاريخ السينما في فلسطين.
كان للأخوين لوميير حصة في انطلاق حركة السينما داخل فلسطين من خلال تصوير مشاهد لفيلم قصير أسموه “مغادرة القدس عبر قطار” عام 1896، ومن ثم عاد الأخوان لوميير إلى فلسطين بعد ست سنوات من بدء عمل الحركة الصهيونية في فلسطين لتسجيل الفيلم الوثائقي “قصة أرض فلسطين”، والجدير بالذكر أن فلسطين شكلت عامل جذب واستقطاب كبيرين لصناع الأفلام الغربية في مطلع العشرينات، وكانت هذه الأفلام توثق صورًا للأماكن المقدسة للمسيحيين وتتبع أثر المسيح، إلا أن الفلسطينيين لم يلقوا اهتمامًا بهذه الأفلام وكان شغلهم الشاغل هو تزايد وتيرة المستوطنات الصهيونية داخل فلسطين.
في تلك الفترة، اقتصر النشاط الفلسطيني على المسرح الذي استُخدم لطرح مواضيع اجتماعية وتوعوية حول شكل العلاقة مع المستوطنين، وفي حين اشتعلت ثورة الفلاحين عام 1936 والتي امتدت إلى عام 1939، كان الشاب إبراهيم حسن سرحان ذو العشرين عامًا قد بدأ ثورته الخاصة ليدخل عبرها كتب التاريخ كأول سينمائي فلسطيني، وكان يقوم بصناعة معداته الخاصة بيديه والتي استخدمها لاحقًا في مونتاج أول فيلم وثائقي بعنوان “زيارة الملك سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين”، ويُذكر أن سرحان هو من أسس “استديو فلسطين” عام 1945. مع حدوث النكبة، توقف الإنتاج السينمائي بسبب المجازر التي كانت ترتكب بحق الشعب الفلسطيني من قبل العصابات الصهيونية، وبعد النكبة كانت هناك إنتاجات سينمائية عن فلسطين في الأردن إلى وقت حدوث “أيلول الأسود”، ومن هنا فرضت السلطات الأردنية حظرًا على إخراج أو إنتاج أي فيلم، وبعد ذلك ذهب صناع الأفلام إلى لبنان وبقوا إلى وقت مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان إلى تونس.
ظلت الصناعة السينمائية الفلسطينية طفيفة، لذلك وبهدف تنشيط وتطوير هذا القطاع، انطلق من القدس عام 2022 “مهرجان القدس للسينما العربية”، وهو مهرجان سينمائي سنوي يهدف إلى تسليط الضوء على الإنتاجات السينمائية العربية الجديدة والمتميزة، مع التركيز على القضايا الفلسطينية والعربية من خلال عدسة الفن السابع، ويقام في القدس الشرقية تحديدًا في عدد من المراكز الثقافية، وقد أُقيم في يوليو/ تموز الماضي.
يهدف المهرجان إلى عرض أفلام عربية معاصرة وتقديم أفضل ما أنتجته السينما العربية، بما يشمل الروائية والوثائقية والقصيرة، ودعم الفنانين الفلسطينيين بتوفير منصة لهم لعرض أعمالهم والتواصل مع صناع الأفلام من العالم العربي، والهدف الأسمى مقاومة التهويد الثقافي لمدينة القدس عبر الفنون والسينما، وأيضًا تعزيز الوعي السينمائي لدى جمهور القدس وخاصة الشباب.
شارك في المهرجان أربعة أفلام روائية طويلة تمثل باكورة أفلام السينما العربية التي ما زالت تمثل دول إنتاجها في العديد من المهرجانات الدولية، وتحصد أهم الجوائز، وهي: اللبناني “أرزة”، التونسي “عائشة”، الجزائري-التونسي “الاختفاء”، الفلسطيني “أحلام عابرة”.
بالإضافة إلى ستة أفلام وثائقية طويلة وهي: من لبنان “نحن في الداخل” لفرح قاسم، الذي حصد جائزتين من مهرجان الجونة السينمائي وهما جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي وجائزة NETPAC لأفضل فيلم آسيوي، إلى جانب فيلم “مثل قصص الحب”، الفيلم متعدد الجنسيات “من عبدول إلى ليلى”، وفيلم الثورة السوداني “مدنيااااو”، والفيلم المصري الذي حاز إعجاب الجمهور حول العالم “رفعت عيني للسما”، بالإضافة إلى الفيلم الحائز على العديد من جوائز الأفلام الوثائقية حول العالم “حلوة يا أرضي” للمخرجة الأرمنية-الأردنية سارين هيرابديان.
أما عن الأفلام القصيرة، فقالت مديرة المهرجان: “فتحنا أبواب تقديم الأفلام القصيرة نهاية مارس الماضي، وسعدنا بعدد الأفلام التي تقدمت للمشاركة، إذ وصل عدد الطلبات إلى 78 فيلمًا، اخترنا منها 12 فيلمًا قصيرًا نأمل أن تحظى بإعجاب جمهورنا العزيز، وأن ينال مخرجوها التقدير الذي يستحقونه”.
وضمت قائمة الأفلام القصيرة 19 فيلمًا وثائقيًا وروائيًا، وهي: “عقبالك يا قلبي”، “تفاحة”، “عند الكشك” و”أعز الناس”، من مصر، و”خالد ونعمة”، “فراغ”، “تغيرات في البعد” و”صدى” ،من فلسطين، و”موعد غرام” و”النحاسين”، من سوريا، والفيلم التونسي “في ظلمات ثلاث”، والفيلم المغربي “دارهُم”، وفيلمان سعوديان هما “ميرا، ميرا، ميرا” وفيلم التحريك “ناموسة”، إلى جانب الفيلم الأردني- الفلسطيني “زيارة عالحارة” وغيرهم الكثير.
وفي دورة العام السابق، اعتمد مهرجان القدس للسينما العربية تقليدًا سنويًا عُرضت فيه الأفلام العربية القديمة ضمن فئة “كلاسيكيات السينما العربية”، والتي عُرضت ضمنها نسخة مرممة من الفيلم الوثائقي “تسعون” إنتاج عام 1978 للمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي، إذ تناول هذا الفيلم سردية أدبية شاعرية يحكيها الأديب والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة.
تنافست الأفلام على جائزتين في فئتي الأفلام الطويلة والقصيرة، وهما جائزة أفضل فيلم وجائزة لجنة التحكيم، وتنافست الأفلام الوثائقية الطويلة على جائزة شيرين أبو عاقلة لأفضل فيلم وثائقي طويل وجائزة لجنة التحكيم، كما حصلت بعض الأفلام على تنويه خاص من المهرجان، وحصل أفضل فيلم في كل فئة على جائزة الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى عروض متفرقة للأفلام في مدينة القدس، عقد المهرجان ورشة لتطوير سيناريو الفيلم الروائي القصير مع المدربة وصانعة المحتوى السينمائي سلام حصري، وجلسة حوارية بعنوان “التصوير الفوتوغرافي الألماني والسينما المبكرة في القدس” والتي تديرها المعمارية والمستشارة الدولية في الثقافة والسياحة المستدامة غدير النجار، وجولتين تسبقان عروض الأفلام في متحف التراث الفلسطيني، والجولة السنوية في مسار درب الصليب في القدس.
وفي تصريح لها، قالت مديرة المهرجان نيفين شاهين: “على الرغم من التحديات والمساحات التي تضيق علينا كل يوم، إلا أن مساحات أخرى تفتح لنا أبوابها محكومة بالأمل”، حيث تُنفذ الدورة الخامسة من مهرجان القدس للسينما العربية بدعم من مؤسسة هاينريش بول – مكتب فلسطين والأردن، مكتب الممثلية الأيرلندية في رام الله، الاتحاد الأوروبي، مؤسسة منيب وأنجيلا المصري، القنصلية الإسبانية العامة في القدس والمسرح الوطني الفلسطيني الحكواتي، وبشراكة مهمة مع المعهد الثقافي الفرنسي في القدس.
اتخذ مهرجان القدس للسينما العربية من جملة “حكايتنا مكملة” شعارًا لدورته الخامسة، وخطّ في هذا العام رسالة للشعوب العربية بشكل عام والشعب الفلسطيني، قال فيها: “كحنون بري لا ينبت من الوهم، ولا من العدم.. وبينما يصير كل ما يصوغ حياتنا جافًا، تتجدد شقائق النعمان من تربة طيبة رطبة؛ لتحكي حكاية أخرى وتزهر في ذاكرتنا كما أزهرت أول مرة في ربيع طفولتنا. نهدي في مهرجان القدس للسينما العربية، في تجددنا الخامس على التوالي، كل من أرادوا أن يحكوا حكاياتهم بأنفسهم زهرة حنون تشبهنا وتشبهكم”.
وحصل فيلم “عائشة” لمهدي البرصاوي على جائزة أفضل فيلم طويل، كما حصل فيلم “أحلام عابرة” للفلسطيني رشيد مشهراوي على جائزة لجنة تحكيم الفيلم الروائي الطويل.
وحصد كل من المخرجين المصريين أيمن الأمير وندى رياض جائزة شيرين أبو عاقلة لأفضل فيلم وثائقي عن فيلمهما “رفعت عيني للسما”. أما عن فئة الفيلم القصير، فقد حاز “نهار عابر” للسورية رشا شاهين على جائزة أفضل فيلم قصير، والفيلم المصري “تفاحة” على جائزة لجنة تحكيم الفيلم القصير. وقدَّم الاتحاد الأوروبي جائزة مالية للأفلام الثلاثة الفائزة بجائزة أفضل فيلم.
في السياق ذاته، نوَّه المهرجان بالفيلم الوثائقي السوداني “مدنياااااو” لمخرجه محمد صباحي، وبالفيلمين القصيرين “تغيرات في البعد” للفلسطينية روان الجولاني و”النملة التي عبرت دفتر رسوماتي” للمخرج اللبناني كريس العاقوري، وشملت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية عن فئات الأفلام الثلاثة مجموعة مهمة من الأسماء الفاعلة والمهمة على الساحتين العربية والعالمية في القطاع السينمائي؛ حيث ضمت لجنة تحكيم الفيلم الروائي الطويل المخرج المصري شريف البنداري والمخرجة السعودية هند الفهاد والممثل الفلسطيني سامر بشارات، وضمت لجنة تحكيم مسابقة شيرين أبو عاقلة للفيلم الوثائقي الطويل المخرج التونسي أنيس الأسود والمخرج المصري سمير نصر والصحفية الفلسطينية والناقدة السينمائية سماح بصول، وشكلت كل من المخرجة اللبنانية- الفلسطينية فاطمة رشا شحادة والممثلتان المصريتان ندى توحيد وناهد السباعي لجنة تحكيم الفيلم القصير.
وقالت مؤسسة المهرجان ومديرته العامة نيفين شاهين إنه على الرغم من كل التحديات التي يواجهها المهرجان كل عام، إلا أنه يستمر بدعم الناس وإيمانهم بالسينما كعمل ثقافي لا ينبغي أن يُحرم منه أي شعب على هذه الأرض.
وشملت فعاليات الدورة الخامسة للمهرجان العديد من الجولات والورش والعروض في القدس والناصرة وحيفا ويافا، كما أقيمت نسخة مصغرة للمهرجان في مدينة بيت لحم من 18 إلى 20 تموز/ يوليو الجاري. ووعد مهرجان القدس للسينما العربية بعودته في دورة سادسة خلال العام المقبل 2025، موجها رسالة أن “الحكايا في فلسطين ستظل تزهر في هذه الأرض التي تحيا بالأمل كوردة حنون تنبت كل عام مع تتابع المواسم”.
عام 2002 كان لفلسطين بصمة خاصة في مهرجان “كان السينمائي”، إذ حصل فيلم “يد إلهية” للمخرج “إيليا سليمان” على جائزة “مهرجان كان” التي كانت بداية لشق طريق العالمية والنجومية للسينما الفلسطينية العربية، لذلك نأمل أن يكون مهرجان القدس للسينما العربية شكل حافزًا لدى الشباب الفلسطيني لصناعة الأفلام العربية، ولتكون دومًا تنطق حديثًا وصمتًا بحب فلسطين ومن أجل فلسطين.


