
مقام البياض: عشقٌ يحلّق في سماءِ الحرب!
بقلم: هبة عصام – الأردن
” لا يمكنُ اقتلاعُ عبيرِ الزهرة، حتى ولو سُحِقت بالأقدام”. طاغور
لم تستطِع المدافع والطائرات الحربية أن تُثني الروحَ الشاعرةَ عن التحليق، بل ازدادت تعطشًا للخروجِ عنقاءً من رمادِها للإمساكِ بخيطِ نورٍ يلوحُ في ظلامِ الحرب، فالشعر حين يكتبُه الذين يقبعون تحت رحى المعاناة، لا يكون مجرّد كلماتٍ عابرة، بل هو إعلان حربٍ أخرى أكثر جرأةً وأوضح نصرًا، حربٍ مع الذات التي تصارعُ يأسَها، وتتحدى أصوات الرصاصِ التي تحاول اغتيالَ الكلمات من أفواهِ القائلين للموتِ: لا!
في صفحاتِ هذا الديوان، وبين ظلالِ قصائدِه الوارفة، تدرك أن الحبَ ليس شعورًا من الترف، نحسُ به ونعيشه في أوقاتِ الراحة والسلم، بل هو الأمل والقوة التي يتشبث بها الإنسان في أحلكِ أوقاتِه للنجاة، ويبدو أن شاعرَنا الغزيّ، جواد العقاد، وجدَ في الشعرِ ملاذًا في خضمّ المأساة، وبنى من القصيدة أبياتًا من الحب الصوفيّ الخالص تؤوي القلوب المنكسرة، وحلّق بنا، بشطحاتِ العشقِ، نحو سماءٍ لا تعرفُ القنابل، على أجنحةٍ من نورِ الكلماتِ العذبة، ومشاعر تتسامى بالإنسانِ إلى دنيا لا تشبه ما نحياه اليوم من الألم..
عندَ تأمل عنوان الديوان (مقام البياض)، نجدُه معبرًا عن الرسالةِ التي يبعثها الشاعر من غزة للعالم، رسالة برغمِ عذوبتِها مفعمة بالتحدي، والمُحِبُ جريء بطبعِه، ومقام البياض، هو المساحة الروحية التي يخلقها الشاعرُ كي يعرُجَ من خلالِها إلى سماواتِ العشق، واختار البياض لا ليدلّ على اللونِ فقط، فالبياض هنا يعني النقاء والصفاء، والنور الذي يمزّقُ الظلمةَ الموحشة حيث الآلام والدماء، وهو الأملُ المرتقَب والكلمة المقاوِمة في وجهِ العالم المستغرق في عدوانِه.
تشكل القصائد حالةً فريدة من الحب، والذي يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن ذِكر الحرب، والهروب بالشاعر من حالةِ الحزن والخوف إلى حالةِ التجلي في مقامات العشق، ويظهر ذلك من خلال الكلماتِ التي استخدمها الشاعر بشكلٍ متكررٍ في بناءِ قصائده (الدفء، الحب، العشق، الجمال، الخمر، العذوبة، الياسمين والأغنيات)، دون التطرق بشكلٍ مباشرٍ إلى المعاناةِ والألم، إلا أن الرغبة الملحة والتمركز حولَ الأنثى المعشوقة والكلمات المضادة للواقع المُعاش، تجعلُ من وجهِ الأمل مرآة تعكس وجه الألم من خلفِ كواليس الفكرة، وإن حاول الشاعر إخفاءه خلفَ ستائر الحب والهوى، فإن التوق إلى أنثى هي الوطن المشتهى تدل على ما يعتلج في صدرِ الشاعر من وجعٍ يعتصرُه..
إنّ الأنثى عند جواد هي الحب بل هي آلهة الحب القديمة، والحب هو الأنثى الغائبة الحاضرة، فهي الغائبة جسدًا، الحاضرة طيفًا:
” صوتكِ يروي أعشابَ الفكرة الأولى لقصيدة حُب
يروّض قلبي إلى هاويةِ المجاز”.
ويقول أيضًا:
” أرى في وجهكِ رغبةً جامحةً
وإلهًا،
وشهواتٍ صغيرةً تُناديني
تعال..”
لكن، وبرغمِ هذا الحب الجامح، كلما تأزم الشوق واشتدّ في قلبِ الشاعر، أعاده ذلك لواقعِه المرير، فغياب أنثاه هو غياب الأمان والسرور، وانفصالٌ بين حالتين، حالة الحُلُم اللذيذ في أحضانِها، وحالة الوحدة في براثن الموت والصراع من أجلِ البقاء:
” لا تُسرِفي في الجَمال
إنّي حزين
أزورُ المآتمَ وتزورني
أوزع مواجعي سرًّا وفي الليل أُسكِنُها وحدتي”
إلى أن يقول:
“وحيدان أنا وصورتكِ الطاغية”
إن جمالَ التعبيرِ وسلاسة الكلمات وعذوبة الوصف لا تنتهي، ففي كل قصيدة نجد أننا أمام عملٍ أدبي نُسج فيه الجمال من خيوطِ الألم، فهو مزيجٌ من صفاء العاطفة، والرمزية العميقة، والدلالات الواسعة، إنما تشيرُ كلها باتجاهٍ واحد، حيث تلامس أرواحنا وتثير مشاعرنا، إنها قصائد ترفضُ الموت وسط الخراب، وذات قادرة ببراعةِ الشاعرٍ التوّاق للحرية على الإبداع في أحلكِ الظروف والأوقات، لتفتح لنا نافذة جديدة لا تطلُ إلى على البياض والحب.
@إشارة


