ثقافةمقالات رئيس التحرير

خالد جمعة واختراع اللغة.. العالم يبحث عن معناه 

خالد جمعة واختراع اللغة.. العالم يبحث عن معناه

 

بقلم: جواد العقّاد – شاعر وكاتب ورئيس التحرير 

ليست هذه القراءة الأولى التي تجمعني بنصوص خالد جمعة، لكنها بالتأكيد أكثرها اقتراباً من جوهر تجربته، وأعمقها تأملاً في لغته وشكله الشعري، بعد أن منحني ديوانه “قمر غريب فوق صانع النّايات” انطباعات عدّة، والذي أهداني إيّاه خلال معرض الكتاب عام 2022. كنت قد رافقته آنذاك، واقتربت من شخصه ومن عوالمه، وأبدى إعجابه بتجربتي الشعرية، ما منحني اعتزازاً عميقاً بشهادة شاعر من طراز فريد، صاحب تجربة غنية، وصوت راسخ في الحقل الشعري الفلسطيني والعربي.

لغةٌ تُخاطب الظل وتُعيد ترتيب العالم

ما يميز شعر خالد جمعة، قبل كل شيء، هو لغته. لغة لا تكتفي بكونها أداة تعبير، بل تصير كائناً حيّاً يتنفس ويتشكّل، كأنّه يعيد ترتيب العالم بالحروف. لا يكتب القصيدة فحسب، بل “يصنع” عالماً شعرياً يتجاوز اللغة الجاهزة والقول المكرور، ليؤسس لمناخ خاص فيه من الغموض قدرٌ مقصود، ومن التأمل عمقٌ كامن في الصور.. قصيدته لا تذهب إلى المعنى مباشرة، بل تقيم خيمتها في الغموض الجميل، حيث إنها ليست رسالةً بل تجربة، ليست قولاً بل حياة. إنه شاعر يغامر باللغة، ويؤسس لوعي شعري جديد، يزاوج بين التجريب والرؤية، بين الدراما والغنائية، وبين الذات والكون.

يقول في إحدى مقاطع الديوان (ص ٤٥):

“وكان يوماً، كأن جنياً عالقاً في ضباب البداية،

يشعل الحروب كلعبة أطفال لم يعد ممكناً السيطرة عليها.”

في هذا المقطع، ينقل خالد المشهد من الواقع السياسي أو النفسي إلى خيالٍ أسطوري مروّع، يصوّر الجنّ كفاعل في بداية الخراب، ويلعب بالألم كأنّه لعبة أطفال، مما يُكسب الصورة كثافة رمزية ودرامية عالية.

وفي موضع آخر (ص٤٩):

“وجهي قلق الغابات، أحتل فصلاً في الحكاية،

أنام بعين مفتوحة تربك الليل نجماً نجماً،

وحيداً أرتب الفصول والأشجار، وحيداً أصنع خيالاتٍ من خوف…”

وجه الشاعر هنا ليس مرآةً للقلق فحسب، بل هو القلق ذاته، هو الفصول، وهو الأشجار، وهو الخوف. كل عناصر الطبيعة تدخل في معجمه الشعري لا بوصفها رموزاً جاهزة، بل بوصفها امتدادات لحالة وجودية تقترب من الفلسفة أكثر مما تقترب من السرد.

العنوان: ما بين الغرابة والصناعة

اختيار خالد لعنوان الديوان “قمر غريب فوق صانع النّايات” يكشف عن وعي شعري لا يبحث عن المباشر. لم يقل “عازف الناي” مثلاً، بل “صانع” النّايات، لأنه لا يكتفي بالعزف على ما هو موجود، بل يشير إلى عملية الخلق نفسها، إلى الحرفة التي تسبق الصوت. وكأنّه يشير إلى نفسه، إلى صانع اللغة لا مستهلكها.

أما القمر، الذي غالباً ما ارتبط في المخيال الشعري بالحب أو الغياب، فيصبح هنا “غريباً”، لا يتوسط الليل بوصفه ضوءاً حالماً، بل يحلّق فوق مَن يصنع الموسيقى وسط عالم من الضجيج والوحشة. تلك المفارقة تمنح العنوان بعداً فلسفياً في سؤال الشعر نفسه: من أين يأتي الصوت؟ ومن يسكن الضوء؟

ضمير المخاطب وإعادة اختراع المشهد

حين يلجأ خالد جمعة إلى ضمير المخاطب، فإنه لا يكتفي باستدعائك كقارئ إلى حافة النص، بل يدعوك لتتورّط في نَفَسه، في زفيره الأخير، لتُصبح جزءاً من الجملة.

ضمير المخاطب هنا ليس أداة لغوية فحسب، بل هو استنطاق للذات في مرآة الآخر، وتحويل للمشهد من لحظة تُروى إلى لحظة تُعاد ولادتها في ذهن القارئ، وكأن الذاكرة لم تعد تخص الكاتب وحده، بل انتُزعت منه لتهبط في داخلك، كأنها قدرك الشخصي.

بهذه الحيلة الوجودية، يعيد الشاعر ترتيب العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ. فبدلاً من المسافة التقليدية التي تفصل بين المُبدِع والمتلقي، يُبنى جسر من النار والهمس، تتسلل عبره الأسئلة، والارتباك، والاعترافات الصامتة.

باختصار، يستخدم خالد جمعة ضمير المخاطب بطريقة تستدرج القارئ إلى قلب النص، لا ليكون متفرّجاً، بل مشاركاً في تشكيل المعنى.

“أعرفك

من إطلالة يديك على المشهد حين صار الحقل ضباباً،

وكنت تمسك خشبة على شكل صليب،

وتسير بها في شوارع معبدة بالمندلينا وذكريات الرائحة…”

هذا المقطع يختصر روح الديوان: مشهدٌ ضبابيّ، يختلط فيه الرمزي بالديني، والذاتي بالجمعي، وذاكرة الحواس بالعقيدة، في سرد شعري أقرب إلى طقس من الكشف.

النص بوصفه دراما داخلية

من أهم ملامح خالد جمعة الشعرية، نزوعه الدرامي العالي. هو لا يكتب “أحاسيس” فحسب، بل يبني مشاهد شعرية تتداخل فيها الشخصيات، الأصوات، الحوار، الصراع، والمونولوج الداخلي.

في قصيدة “الذئب الذي عاش وحيداً” تتفجّر هذه الدراما:

“صاحت ليلى في وجوهكم بقصتها

فلونتُ فمي بالأحمر كي تصدقوا…

أنا ابن ليلى وحبيبها السري

أنا الذئب الذي عاش وحيداً

بذاكرة من أسئلة…”

يستحضر الشاعر شخصية ليلى الشعبية، ويقلب المعادلة: الذئب ليس المفترس هنا، بل الابن، الحبيب، الإنسان. الذئب يُعاد تخليقه بوصفه كائناً هشاً، ذاكرته من أسئلة، لا من جريمة.. وهذا التوظيف الدرامي للشخصيات الشعبية لا يُجيده سوى شاعر كبير يمتلك أدواته ومخيلته، ويعرف كيف يزاوج بين الأسطورة والحاضر، بين الطفل والشاعر، وبين البريء والمُدان.

وأخيراً، قراءتي لخالد جمعة، كما لقائي به، كانت دعوة إلى إعادة التفكير في الشعر بوصفه فعلاً وجودياً، ومغامرة لغوية، ورسالة داخلية لا تبحث عن التصفيق بل عن الصدى.

هو شاعر يكتب كأنّه يعيش على الحافة، وكأنّه يعزف على نايٍ صنعه بنفسه، في حضرة قمرٍ غريب.

لا تدّعي هذه القراءة المتواضعة ما ليس لها، فهي ليست دراسة نقدية بمفاهيمها الصارمة، بل هي انطباع نابع من محبة صادقة لتجربة شاعر يكتب من تخوم الروح، ويعيد اختراع اللغة كمن يصوغ ناياً من شظايا قلبه.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى