كلمة الرئيس في القمة العربية.. رؤية استراتيجية لوقف إبادة غزة وإعادة البوصلة نحو القضية المركزية

بقلم: وليد المصري- إعلامي وكاتب فلسطيني
وازنت كلمة رئيس دولة فلسطين، سيادة الرئيس محمود عباس، في كلمته خلال القمة العربية الـ34 في العاصمة العراقية بغداد، بين تشخيص معاناة الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت حرب الاحتلال، وخصوصاً في قطاع غزة، وبين تقديم رؤية استراتيجية واضحة تقوم على منطق الدولة، وتنطلق من الحق الفلسطيني المشروع، وَرَسَم خريطة طريق متكاملة تمزج بين التحرك السياسي، والإصلاح الداخلي، والوحدة الوطنية، وهي المكونات التي لا غنى عنها لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية، دون الوقوع في فخ الخطابات الجوفاء أو الطروحات غير المنطقية؛ للخروج من أهوال حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، باتجاه أفق عنوانه “الحرية، السيادة، والدولة المستقلة”.
وتنم كلمة فخامته عن قيادة مسؤولة وواعية بحجم التحديات، ومتمسكة بثوابت شعبها، وراغبة في تحقيق السلام والاستقرار لشعبها دون تفريط أو تنازل، حيث استهلها بتوصيف دقيق وشامل للمرحلة الراهنة، إذ إن القضية الفلسطينية تعيش واحدة من أخطر لحظاتها التاريخية، في ظل حرب إبادة جماعية على قطاع غزة لم يُشهد لها مثيل في التاريخ الحديث، وأسفرت حتى اللحظة إلى ارتقاء أكثر من 53272 شهيداً، و120673 مصاباً وجريحاً، والتي تدخل أسوأ وأخطر مراحلها فيما يسمى بعملية “عربات جدعون” التي تهدف إلى تهجير سكان القطاع وإحلاله عرقياً، إضافة إلى التغول الاستيطاني غير مسبوق في الضفة الغربية والقدس، والعدوان على جنين وطولكرم.
لكن توصيف سيادة الرئيس لهذه المخاطر باعتبارها “وجودية”، كما أشار في كلمته، لا يمكن اعتباره تعبيراً بلاغياً أو عبارة عابرة، بل هو تشخيص دقيق يعكس وعياً استراتيجياً بطبيعة المشروع الاحتلالي الذي يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، وإخضاع الشعب الفلسطيني تحت حكم احتلال عسكري دائم، يعيث فيه الاحتلال قتلاً وأسراً واستباحةً.
اللافت في الخطة العملية المتكاملة التي طرحها سيادته لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، أنها تبدأ من الوقف الدائم لإطلاق النار ورفع الحصار وعودة الحياة الطبيعية لقطاع غزة، وتمكين السلطة الشرعية من تحمل مسؤولياتها هناك، بما ينهي حالة الانقسام ويعيد الوحدة الوطنية على أسس قانونية ومؤسساتية، وهي خطوة عملية بامتياز وشجاعة، لكنها لا تخلو من التحديات، حيث لا تزال عقبات كبيرة ماثلة، مثل: استمرار الانقسام الفلسطيني، واستمرار حكم حماس لغزة، وسعي أطراف خارجية تسعى إلى تعطيل أي جهد وطني جامع، وبالتالي فإن تقديم هذه الرؤية بهذا الوضوح يمثل نقلة نوعية تستوجب من كل القوى الفلسطينية التفاعل الإيجابي معها، لا التردد أو الانكفاء خلف الشعارات التي أضحت لا تسمن ولا تغني من جوع، لغزة الجريحة التي تعاني من مجاعة كارثية.
في كل كلماته، يأتي السيد الرئيس على بيان أهمية وحدة الصف الوطني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويؤكد على التزامه التام بها، وعلى قاعدة القانون الواحد، وهو ما يمثل الركيزة الأساسية لأي دولة.
وأشار سيادته إلى مسيرة الإصلاح في مؤسسات الدولة، والتي كان أبرزها استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونائب رئيس دولة فلسطين، وهو ما يشير إلى تفكير استراتيجي وخطوة سليمة على طريق تطوير الأداء السياسي والمؤسساتي الفلسطيني، وأوضح أن تتويج هذا الإصلاح يكون بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، بصفتها حقاً وطنياً ودستورياً، مؤكداً استعداده لذلك فور توفر الظروف الملائمة.
اللافت كذلك في كلمة الرئيس أبو مازن أنها لم تكن موجهة للشعب الفلسطيني فحسب، بل حملت رسائل مباشرة إلى الدول العربية، التي تشكل الحاضنة الأهم للقضية الفلسطينية؛ فدعوته لعقد مؤتمر لإطلاق عملية سياسية دولية برعاية مشتركة سعودية فرنسية تفضي إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، تعكس السعي الفلسطيني الكبير لإعادة تدويل القضية الفلسطينية.
كما أن دعوته لعقد مؤتمر دولي لإعادة الإعمار في القاهرة تعكس تقديراً لدور مصر المحوري والثابت في دعم القضية الفلسطينية، يضاف إلى ذلك حديث سيادته حول ضرورة وقف الإجراءات الإسرائيلية الأحادية، من استيطان وتهجير وهدم، واحترام الوضع القانوني للقدس، تحت الوصاية الهاشمية، وكلها أمور تُبرز أهمية الدعم العربي، كشريك فعلي في حماية المشروع الوطني الفلسطيني من خطر التفكك والتصفية.
ومن هنا، فإننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى التقاط رؤية فخامة الرئيس أبو مازن، وتبنيها وطنياً، باعتبارها أساساً يمكن البناء عليه، وتعزيزه بأدوات واقعية، وخطوات ملموسة، وقرار وطني واحد تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، فذلك هو المدخل الحقيقي لإعادة الاعتبار لقضيتنا، ووفاءً لدماء شهدائنا وأسرانا، والسير نحو تحقيق حلم الدولة، وتجنب مواصلة الدوران في حلقة مفرغة من التبعية للأجندات الخارجية التي تحاول تكريس الانقسام وإطالة أمده.


