“كُن تمثالاً”مسرحية تقتبس من صراخ الجسد حياة وعواصف
تُمثل البحرين قريبا بمهرجان موستار في البوسنة والهرسك..

زهراء غريب-اليمامة الجديدة
ضباب كثيف وعتمة دامسة، يلتقيان في ضوء خافت لنحت صوت جسدٍ يتساءل عن حقيقة الوجود وهوية الحياة، مُطلقًا العنان لصرخته المدوية، التي تحرر رغبات وأوجاع إنسانية، تتمرد على عالم مزيف ذي روح حجرية ينصاع لعبودية مطلقة. هكذا تجلت مشهدية عرض “كن تمثالًا” لفرقة (فن تولك) محمّلة برمزية تجسد انبعاث الحياة في تمثال صخري مركون للنسيان، داخل مخزن للقطع الأثرية، في تجربة مسرحية فلسفية فريدة، وصفها المراقبون والمهتمون بالشأن المسرحي بأنها تمثل إسهامًا فنيًا وفكريًا نوعيًا في الساحة المسرحية البحرينية والعربية المعاصرة، مما منحها حضورًا بارزًا على المستويين المحلي والدولي؛ نظرًا لعمق طرحها الذي يخاطب وجدان الجمهور باعتباره شريكًا في رحلة البحث عن الصوت المفقود.
المسرحية، التي أخرجها الفنان جاسم طلاق، وقام ببطولتها الفنان صادق عبد الرضا، حصلت مؤخرًا على جائزة أفضل نص مسرحي من تأليف الكاتبة الكويتية تغريد الداوود، خلال مهرجان المونودراما العربي في مهرجان جرش للثقافة والفنون بالأردن في دورته التاسعة والثلاثين. ومن المتوقع أن تُعرض قريباً في النسخة الخمسين من مهرجان موستار في البوسنة والهرسك، في 2 سبتمبر 2025، لتكون بذلك أول عمل لفرقة مسرحية بحرينية يشارك في هذا المهرجان العريق.
نص حداثي واشتغال متقن
من جانبه، أوضح مخرج العمل، جاسم طلاق، أن المسرحية استندت إلى نص مبتكر للكاتبة تغريد الداوود، التي قدمت أفكاراً جديدة تتعلق بإمكانية دب الحياة الإنسانية في تمثال حجري صامت. وأشار إلى أن “هذه الأفكار كانت محور العمل، حيث تعاملنا معها بعمق، وأعطيناها الوقت الكافي لتنمو وتتطور داخلنا لمدة تجاوزت الثلاث سنوات من البحث والتعديل. ساهم تغيير الممثل ثلاث مرات في بلورة الشكل الحالي للعرض. ومع ذلك، ما زلنا نستكشف أشكالاً وتكوينات مسرحية أخرى يمكن للتمثال تجسيدها وسرد قصتها.”
وبشأن الأساليب الإخراجية للعمل، أفاد طلاق “اعتمدنا بشكل عام في مسرحية (كن تمثالا) على إبراز المتناقضات والثنائيات، وحذف ما لا يخدم العمل شكلاً ومضموناً وصورة، مع التركيز على المحتوى الرائع للنص وفكرته. قمنا بتحديد ما يصلح وما لا يصلح في الحركة والشكل، وما ينطق وما لا ينطق في القول أو السرد. وبما أن النص طويل نسبياً بالنسبة إلى مسرح المونودراما، فقد عملنا على استخدام المخاطبة في فترة، والتكوين في فترة أخرى، والسرد في حين آخر، مع التغيير كلما اقتضت الضرورة خلال المسرحية، بهدف الوصول إلى المشاهد أو المتلقي”.
وأشاد طلاق بالأداء الاحترافي للفنان صادق عبد الرضا، مشيرًا إلى أنه “جسّد الشخصية ببراعة ورشاقة، وفهم أهدافها وعمل على تجسيدها كخلاصة للجهد المبذول. وقد ساعد على ذلك قراءة الفنان حسن حمد وصناعة الفعل في رسم الصورة المشهدية النهائية، بالإضافة إلى تعاون الفنانة أنوار مدن في نحت التمثال من خلال المكياج والملابس. هذه التغييرات المعتمدة في بناء العمل جعلتنا نراجع الكثير من ذاكرة الساعات أو الأيام الأولى للتدريبات، مع ثبات الفكرة أو النص”.
فكرة جديدة ومفاجآت
مؤلفة النص، الكاتبة الكويتية تغريد الداوود، أشارت إلى أن فكرة نص العمل جديدة، وفيها من التشويق ما يبقي انتباه المشاهد مشدودًا من بداية العمل حتى نهايته، حيث يتفاجأ بأمر غير متوقع. موضحة أن “المسرحية تحمل تأويلات تسقط على الواقع الحالي تحديدًا، حيث إن التمثال الذي يحاول التفاعل مع ما حوله، يجد نفسه محجوزاً في متحف يحول بينه وبين البشر حاجز زجاجي، وفي ختام العرض يطلق تساؤل كبير للمشاهدين: من منا التمثال؟ أنا أم أنتم؟”.
وأردفت الداوود: “أعتقد أن الإسقاطات على بعض الأمور الموجودة على أرض الواقع حاليًا، ساهمت في حصول هذا النص على الجائزة، بجانب الاشتغال الاحترافي الكبير من المخرج جاسم طلاق والفنان صادق عبد الرضا، مع فريق العمل كاملاً الذي أوجّه له الشكر لتميزه في تقديم هذه المسرحية المونودرامية الرائعة، التي أعبّر عن فخري وسعادتي الكبيرة؛ لأنها مثّلت مملكة البحرين”.
تناغم
المسرحية التي تناولت قضايا الإنسان المعاصر، مثل فقدان الحريات و الخضوع للاستعباد، اعتمدت بشكل رئيسي على التعبير الجسدي كوسيلة حركية مشحونة بالعواطف؛ تبوح بتناقضات شعورية للتمثال الذي ينهض حيناً، ويسقط حيناً آخر في خضم عملية انبعاث الحياة، مستحضراً مشاعر تتأرجح بين الحزن والفرح، الصمت والصراخ، الحب واليأس، والغضب. جاء الأداء الجسدي متفرداً ومتناغماً مع السينوغرافيا الرمزية التي ساهمت في استخراج هذه التناقضات والأحاسيس العميقة. وتجلت أبرز العناصر السينوغرافية في: المكعب الخشبي، الأواني والزينة، العصا المثبتة في الصندوق، المرآة، المرايا، والزهور المتناثرة على خشبة المسرح.
والمسرحية من إخراج الفنان جاسم طلاق، وتمثيل الفنان صادق عبد الرضا، وسينوغرافيا الفنان حسن حمد، وإضاءة كل من الفنان علي أبو ديب وأحمد بن علي، وموسيقى الفنان حسن شمس، وملابس ومكياج الفنانة أنوار مدن.
مجد متصاعد
تجدر الإشارة إلى أن مسرحية “كن تمثالًا” حازت الموافقة للمشاركة في مهرجان موستار بالبوسنة والهرسك، ومن المتوقع عرضها في 2 سبتمبر 2025. وتُعد المسرحية أول عمل بحريني يُقدم في رومانيا، وثاني عمل بحريني يُعرض على خشبة مسرح أوروبي، حيث تألقت وشاركت في مهرجان بابل الدولي للفنون الأدائية بمدينة تيرغوفيشته الرومانية في عام 2024، وهو العام الذي شهد عرضها الأول في البحرين.
والعمل من إنتاج فرقة “فن تولك” للإنتاج الفني، وهي مؤسسة فنية بحرينية مستقلة تعمل في مجالات الفن المختلفة، وبالأخص السينما والمسرح. وتأسست الفرقة في 19 مايو 2019 على يد نخبة من المثقفين والفنانين، وهم: محمد يوسف آل يعقوب، وأحمد عيسى علي، وجاسم أحمد، ومجيد زهير، ووليد حسن الدوسري، وعلي عادل عمران.


