غزة.. أسطورة الحصار والجوع والصبر الذي لا يُقهر

بقلم : منار السماك -كاتبة بحرينية

غزة ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي قصة تُروى بالعظام وتُكتب بالدموع وتُحفظ في ذاكرة العالم كأنشودة لا تخبو وسط الضجيج وتغييب الحقيقة، تقف هذه المدينة شامخة كمنارة من نار وكرامة، حكاية شعب لا يرضخ، رغم أثقال الحصار ووطأة الصمت.

هنا لا يأتي الفقر الغذائي زائرًا بل يسكن العيون يتسلل إلى العظام ويتجسد على وجوه الأطفال الذين اعتادوا الانتظار بلا جدوى ليس الأمر مجرد نقص في الطعام، بل حالة من الحرمان المتواصل حيث صمت الموائد أقسى من ضجيج الحرب والأمعاء الخاوية أكثر بلاغة من كل الصرخات الطفل لا يسأل عن موعد الوجبة لأنه يعرف مسبقًا أن لا أحد سيجيبه.

في هذه الأرض لا تُقاس الحياة بالساعات، بل بعدد الغارات وعدد الأرواح التي بقيت تنبض رغم الحطام لا وقت للندم ولا متسع لحزن كامل الصبر هنا ليس خيارًا، بل فريضة تُمارس يوميًا مثل التنفس تحت الركام هناك من يحدق في الفراغ يجلس إلى طاولة فارغة، ويخاطب الموت قائلاً:جئت متأخرًا، لقد تعلمت كيف أعيش في غيابك.

أما الخذلان، فليس حدثًا عابرًا، بل رفيق يومي، ضيف لا يغادر، يقيم بين الصور الناقصة والأحلام المجهضة، وبين الأرواح التي تنتظر شيئًا لا يأتي تبدأ الأيام بلا وعد وتنتهي بلا معجزة ومع ذلك ينهض هذا الشعب كل صباح وكأن الأمس لم يكن جرحًا مفتوحًا.

من بين الأنقاض تنهض المدينة كما ينهض الحلم من ليل طويل، تكتسي رمادها كدرع، وتبتسم، لا لأن الحياة جميلة، بل لأن الذل لا يستحق دمعة هنا، الضحك مقاومة، والفن وسيلة للبقاء، والحزن لغة وطنية الأطفال لا يرسمون الشمس، بل يرسمون نافذة على جدار مهدم، رغيفًا لا يُؤكل، وأمًا تضم ابنها الشهيد كل لوحة رسم وكل نغمة موسيقى وكل بسمة طفل هي محاولة لانتزاع الحياة من بين أنياب الموت.

ليست هذه الأرض بحاجة إلى تعريف، يكفي أن تُرى واقفة بلا سقف، بلا ضوء، بلا مدد ثم يُسأل: كيف تنسج الأساطير من رماد؟
وإن تحدثوا عن المعجزات، فلا تذكرهم بانشقاق البحر، بل اخبرهم عن شعب ظل واقفًا حتى بعدما ابتلع الظلام كل نور.
رغم الحصار وشُح الطعام والبرد والنسيان تكتب هذه المدينة قصتها بعناد لا يشبهه شيء، تُزهر الكرامة وسط الرماد، وتكبر الإنسانية في قلب الركام ليست مجرد مكان، بل روح حية تصرخ أن الكرامة لا تُقهر، وأن الحياة مهما كانت موجعة تستحق.
ومع كل هذا الألم يبقى في هذه الأرض نبع أمل لا يجف، ونبض حياة لا يتوقف فلتكن حكايتها نداءً لضمير العالم دعوة لكل من بقي في قلبه إنسان أن يرفع صوته ويقف مع الحق، ويكون نورًا في وجه هذا الظلام.
فلنتعلّم من صمودها أن الفجر لا يُولد من الرخاء، بل من رحم المعاناة، وأن الشعوب لا تُقهر ما دامت ترفض السقوط.