حياة رغم المحو: تأملات في البقاء الفلسطيني

بقلم: منار السماك(شاعرة وكاتبة بحرينية)-فريق البوصلة
حين تصبح الحياة وظيفة غير معترف بها
في الظروف الطبيعية، تُقاس الحياة بالكهرباء والاستقرار، وساعات النوم ومتوسط الدخل. أما في فلسطين، وتحديدًا في تلك البقعة المحشورة بين الجغرافيا والتاريخ، بين القصف والانتظار، فإن الحياة تُقاس بقدرتها على النهوض من تحت الركام، وعلى النمو بلا تربة، وعلى التنفس في غرفة مزدحمة بالاختناق الجماعي.
هذا الحديث ليس عن المقاومة كمشروع سياسي، ولا عن الصمود كمصطلح مكرر في نشرات الأخبار، إنما عن الحياة نفسها، كيف تُقرر بشكل عبثي وعظيم أن لا تموت.
تأمل:
ماذا لو كانت الحياة في فلسطين هي الامتحان الحقيقي لفكرة الوجود؟ حيث البقاء ليس مجرد غريزة، بل قرار أخلاقي يتكرر كل صباح.
الزيتونة: سياسة الجذور العميقة
في فلسطين، الزيتونة ليست مجرد شجرة، إنها وثيقة ملكية غير قابلة للتمزيق، لا تصدر بيانات، ولا تشارك في مفاوضات، لكنها تقف. فقط تقف.
في أرض تُقصف، وحدود تُمحى وتُرسم كما يشاء الأقوياء، تظل الزيتونة راسخة، كأنها تقول: أنا لست رمزًا، بل الحقيقة التي ترفض أن تُمحى.
الزيتونة لا تقاتل، لكنها تبقى، وهذه أبلغ أشكال المقاومة.
تأمل: ليست كل الأشجار رمزية، لكن حين تُقتل الأرض يوميًا، تصبح الشجرة موقفًا سياسيًا، وصورة لعقيدة الجذور.
المفتاح: الذاكرة التي لا تصدأ
في أماكن أخرى، يُنسى المفتاح بعد هدم البيت. أما في فلسطين، فالمفتاح يتحوّل إلى لغة كاملة من الذاكرة، يُعلَّق في الرقاب، يُورَّث للأحفاد، ليس كأداة، بل هو كبيان وجودي. كل مفتاح فلسطيني هو وثيقة حق مكتوبة بلغة معدنية، ومحفوظة في عصب الهوية.
والمفارقة؟ أنه لا يفتح شيئًا، لكنه، رغم ذلك، يُغلق أبواب النسيان.
تأمل: أن تحمل مفتاحًا بلا باب، هو إعلان ضمني بأنك لم تُغلق الباب أصلًا، وأن الذاكرة قادرة على الصمود أكثر من الخرائط.
غزة: فيزياء الحياة بلا قوانين
غزة ليست تعريفًا جغرافيًا، هي حالة وجودية متطرفة.
حين ينفجر القصف، يولد طفل، وحين ينقطع التيار، تُشعل أم تنورًا.
حين تُغلق المعابر، يُفتح باب لقصيدة.
الحياة في غزة لا تمشي إلى الأمام، بل تصعد كالدخان أعلى من سقف الواقع، وأبعد من منطق الاحتمال.
هنا لا يُدرَّس مفهوم الحياة الكريمة، بل يُمارَس يوميًا مفهوم:
الحياة الضرورية جدًا حتى في أسوأ الظروف الممكنة.
تأمل:
في غزة، لا يعمل المنطق، فالمعادلة تقول: الحياة مستحيلة، لكن النتائج اليومية تقول: ما زلنا هنا.
المرأة الفلسطينية: الدولة التي لم تنهار
حين تسقط الأنظمة، وتتعطل البنى التحتية، وتفشل السياسة والطب والتعليم، تبقى المرأة الفلسطينية وحدها كآخر نظام تشغيل قابل للحياة.
هي من تدفن وتُربّي، وتخبز وتُعلّم، وتمسح دمعتها لتعد وجبة الغد.
لو أن هناك مقررًا دراسيًا بعنوان:
إعادة الإعمار النفسي في زمن الانهيار، لكان غلافه صورة امرأة فلسطينية تحمل طفلًا ورغيفًا ووصية لم تُكتب بعد.
تأمل:
ليست الدولة هي التي تنقذ الأم، بل الأم هي التي تنقذ فكرة الدولة. في كل بيت تُعاد كتابة عقد اجتماعي على عتبة الخبز.
الطفل والحجر: المعادلة التي تربك المنطق
حين يواجه طفل دبابة بحجر، لا يكون السؤال عن التوازن العسكري، بل عن الوجود. الحجر لا يُسقط الدبابة، لكنه يُسقط منطق القوة، يُربك ببساطة.
كيف تواجه طفلاً؟ هذا سؤال لم تستطع أي آلة قمعية الإجابة عنه.
والطفل الفلسطيني؟ يطرحه يوميًا بلا كلام، بلا خوف، بلا مترجم.
تأمل: في وجه الطفل، لا ترى الغضب فقط، بل التصميم. التصميم على أن العالم لا يكتمل إن لم يُرَ من عيون طفل فلسطيني.
الرماد: تربة المعنى الجديد
هذا الحديث لا يتحدث فقط عن الزيتون أو المفاتيح أو الأطفال، بل عن الألم ذاته.
الألم الذي اعتدنا اعتباره نهاية، تحوّل في فلسطين إلى أرض خصبة لبدء جديد من تحته، تُخطط الحياة لحيلتها القادمة، تنمو هناك، ببطء في صمت، لكن بإصرار لا يُقهر. وهكذا، مع كل ضربة يُولد احتمال جديد:
ليس فقط للبقاء، بل لإعادة تعريف الحياة ذاته.
تأمل:
الألم عادةً ما يعني النهاية، لكن في فلسطين، حتى النهاية يتم التفاوض عليها،
على هامش العالم في مركز الحقيقة.
أن تعيش في فلسطين هو أن تكون شاهدًا على تجربة مستحيلة:
عالم بلا يقين، بلا نظام، بلا عدالة، لكن فيه بشر يرفضون الزوال.
هنا، لا تُقاس الحياة بعدد السنوات، بل بعدد المرات التي رفضت فيها أن تموت.
وفي المشهد الأخير حين تسأل:
كيف ما زالوا أحياء؟
فالإجابة لا تأتي في مؤتمر ولا من تقرير دولي بل في مشهد صغير:
رغيف خبز خرج لتوّه من تنور ترابي
بينما في السماء تحوم طائرات لا تعرف معنى هذا الخبز.
ولأن البقاء شكل آخر من المقاومة في فلسطين، لا تكتمل الجملة، لكن المعنى دائمًا حاضر ولا تصل الحياة إلى نهايتها، بل تعيد اختراع بدايتها في كل مرة يموت الحجر في يد الطفل لكنه يُخلِّف سؤالًا في عقل العالم:
ما الذي يجعل الإنسان يتمسك بالحياة، حتى لو لم يبق فيها شيء؟
والإجابة ليست في السلاح، ولا في الخطاب السياسي لكنها في أشياء صغيرة جدًا لكنها تقهر أكبر منظومات العنف.
في دِقَّةِ خُبزِ أُمٍّ لا تعلم إن كان ابنها سيعود،
في نظرةِ عجوزٍ تجلس قرب شجرةِ زيتونٍ مذبوحة وتقول:
ستنبت من جديد.
وفي طفلٍ يمسك مفتاحًا لا يفتح شيئًا لكنه ينام وهو يحلم ببابٍ لا يزال هناك، في مكانٍ لم ينسه، هذه ليست أساطير.
إنها الحياة حين تُجبرك على أن تكون بطل رواية لم تكتبها.
فلسطين لا تنتصر بالمعارك، بل برفضها التوقيع على شهادة وفاتها، وهذا الرفض وحده هو أقوى شكل من أشكال المقاومة.
لذا، حين تسأل بصدق أو بسخرية: كيف ما زالوا أحياء؟
تذكّر أن البقاء هنا ليس فعلًا فيزيائيًا فقط، إنما بيانًا سياسيًا، وأخلاقيًا، ووجوديًا،
يُعلن أن هناك شعبًا تحت الرماد ما زال حيًّا رغم كل محاولات المحو.


