
المنابع الثقافية والفكرية في رواية “الخنفشاري” للكاتب نافذ الرفاعي
بقلم: د. لينا الشخشير
تضافرت الفلسفة الغربية المادية مع التراث التاريخي العربي؛ لتشكّل منابع ثقافة الكتابة الإبداعية في رواية الكاتب الفلسطيني نافذ الرفاعي “الخنفشاري”، ورغم تباين روافد المصدرين إلا أنّ الكاتب قد استطاع أن يؤالف بين هذه الروافد المتناقضة، ويجعلها تصبّ جميعا في خدمة النص الروائي، الذي هيمن عليه الطابع الذهني، فالرواية تقوم على فكرة الصراع الفكري داخل النفس البشرية ذاتها نتيجة الرفض للواقع السياسي القائم والاجتماعي السائد، وقد تجسّد ذلك في أكثر من شخصية من شخصيات الرواية، وإن تجلّت في شخصية “الخنفشاري” أكثر من غيرها باعتبارها القوة المحرّكة للعمل الروائي، مما جعلها وعاء ينضح بالمتناقضات كافةً من حيث المظهر العام والأفكار والأفعال.
تحمل شخصية “الخنفشاري”، الشخصية المحورية في الرواية، فلسفة الوجودية، التي تعنى بتحقيق الوجود الفردي للإنسان من خلال ممارسة الحياة بحرية مطلقة، فهو يرفض التطرف والحزبية والعنصرية بأشكالها كافة، ويريد الانضواء تحت لواء الإنسانية “أريدك دون تطرف أو حزبية أو عنصرية لديانتك أو لونك أو جنسيتك.. فقط إنسانا”(ص8). كما يرفض الخضوع للثوابت الاجتماعية في سلوكه، فهو يعيش حياة بوهيمية لا يأبه فيها لأناقته ولا نظافته، يعاقر الخمر ويعاشر النساء، ويطلق العنان لأسئلته الوجودية. إنها شخصية تؤمن بالفوضوية الثورية التي تدعو إلى التحرّر من التقليدي والسائد “كن عكس التيار.. إنني أعاكس التيار حتى أعيد نفسي إلى نفسي” (ص105). إنه إعلان واضح وصريح بالإعراض عن تجسيد أي تيار فكري أو انتماء أيديولوجي، والاعتماد على النكوص إلى الذات الخالصة لإعادة بنائها وتحريرها من التبعية. إذن فالفوضى التي ينشدها “الخنفشاري” ليست فوضى عبث، وإنما هي فوضى مضادة للنمطية والتكرار والتقليد، يسعى من خلالها إلى التمرّد على سلوك القطيع، وكذلك اتّباعه للمنهج البوهيمي عبارة عن صرخة للإطاحة بالنظم الاجتماعية السائدة؛ وهكذا يُضْحي تأّثُر الخنفشاري بفلسفة الغرب التي تجنح إلى الحرية تأثّرا إيجابيا، لأنه يهدف إلى إحلال نظام جديد يرفض الواقع القائم ويتطلع إلى واقع بديل يتيح للإنسان أن يمارس إنسانيته ويسهم في تطوير مجتمعه.
اجتمعت داخل شخصية “الخنفشاري” سلسلة من المتناقضات، منها أنه “نصف رجل دين ونصف فاجر…ينشد أشعارا صوفية .. يتناول الخمر” (ص6-7). وتأتي عبارة الكاتب: “إنه مثقف يتّحد مع أضداده”(ص15) لتدّل على أنّ “الخنفشاري” لم يكن لديه انفصام في الشخصية، وأنّ تناقضاته قد انبثقت عن وعي تام، إذ استقى تكوينه الفكري والثقافي من الفلسفة الغربية واستمدّ طاقته الروحية من الصوفية، ليخلص من هذه السيميائية المتضادة إلى علاقة تكامل ما بين المادة والروح. فكلما كان “الخنفشاري” يرتكب الآثام كان يسارع إلى الاعتكاف في زاوية “زيتا” وفقا للطريقة الخلوتية ليطهّر نفسه من حب الدنيا، وعلى الرغم من تعلّق “الخنفشاري” بالمتصوفة وإيمانه بأنهم رمز الطهر والنّقاء إلا أنه لم يشأ أن يصبح واحدا منهم خشية أن يتحوّل إلى درويش، بل كان يتوق إلى أن يصبح صوفيا ثوريا على طريقة فرسان الهيكل أو المعبد في إيطاليا، الذين كانوا يعيشون معيشة الرهبان ليلا ويتدربون على القتال نهارا. فيوازن بين الفريقين بقوله: “إن التخلّف يغزو عالمنا العربي، وتحوّل فرسان التصوف إلى دراويش، وفرسان الهيكل الإيطاليين إلى عقيدة عسكرية” (ص59).
يبدو “الخنفشاري” في الرواية صعلوكا نهضويا، فهو يرى أنّ الواقع الحالي للعالم العربي والمشهد الفلسطيني السياسي المنقسم المتشرذم يعود إلى التعصّب الأعمى للحزب أو الجنسية أو الدين أو العائلة، مما جعله يتمرّد على المجتمع النظامي، ويفرّ من الأعراف القبلية ليبني مجتمعه الفوضوي على طريقته الخاصة حاله حال الصعاليك، الذين ثاروا على التركيبة الطبقية للمجتمع القبلي التي تهمّش الفرد وتصهره في بوتقة القبيلة. كما أنهم قاموا بتطبيق مبدأ الاشتراكية قبل ظهورها، وذلك حين كانوا يقومون بأعمال الإغارة والسلب لتحصيل الثروة من أجل توزيعها على الفقراء.
برز في الرواية تناص الشخصيات بشكل لافت للنظر، ويقصد به “وجود الشخصية الأدبية أو التراثية في النص الحاضن”، حيث عمد الكاتب إلى استدعاء مجموعة كبيرة من السياسيين والأدباء والشعراء والثوّار بأسمائهم، وجعل شخصيات روايته لا سيما “الخنفشاري” تتناص معها تناص التآلف، “الذي تقوم فيه الشخصية بدور موافق لما يستدعيه حضورها من تداعيات وإيحاءات في الوجدان الجمعي للمتلقين”. ولذا يتطلّب هذا النوع من التناص أن يكون القارئ واسع الاطّلاع غنيّ المعرفة؛ ليستطيع أن يكتشف العلاقة بين النص الحاضر والنص الغائب وإلا فإنه لن يتمكّن من فهم دلالة النص والاستمتاع به. فقد جعل الكاتب نافذ الرفاعي “الخنفشاري” يتناص تناصا سيرذاتيا مع الراهب (راسبوتين) والصعلوك عروة بن الورد حين أورد ذكرهما في سياق ذكر بعض تفاصيل حياة “الخنفشاري” مشيرا بذلك إلى وجود تقاطع نسبي لسيرته مع سيرة هاتين الشخصيتين، حيث أكّد صفة البوهيمية لدى “الخنفشاري” من خلال التشابه بينه وبين (راسبوتين) في الجمع بين الورع والأفعال الجنسية غير الشرعية، فـ “الخنفشاري” كان ماجنا يعاقر الخمر ويعاشر النساء لا سيما الارستقراطيات منهن، ومع أنه كان دائم التردد على الزاوية الصوفية إلا أنه رفض أن يكون متصوفا، ليس فقط احتجاجا على الصوفيين وتحولهم إلى دراويش، وإنما لنزوعه إلى الشهوات. وكذلك (راسبوتين) فقد كان بوهيميا عربيدا تتهافت عليه نساء المجتمع المخملي، وعندما عرضت عليه الكنيسة أن يصبح قسّا رفض؛ لأن قوانينها تتناقض مع طبيعته النهمة للملذات.
وجاء التناص مع أمير الصعاليك عروة بن الورد مفتاحا لفهم مخالفة “الخنفشاري” لأعراف المجتمع وخروجه على تقاليده، فقد تمرّد عروة على التقاليد القبلية البالية، لأنها تقيّد حرية التفكير لدى الفرد وتلغي وجوده وتجعله خاضعا لنسق المجتمع، كما سعى عروة لتدمير التركيبة الطبقية للقبيلة باعتبارها البذور التي تولّد النزاعات والمشاحنات. وفي هذا السياق يمكن تفسير ما كان يقوم به الخنفشاري من أعمال منافية لمنظومة القيم والسلوك الاجتماعية بأنه تعبير عن رفض الحكم على الفرد باعتبار نسَبه ومكانة عائلته، ولعل “الخنفشاري” كان يرمي من وراء إقباله على معاشرة الفتيات من الطبقة الارستقراطية إلى تدمير التقسيم الطبقي في مجتمعه.
أما الثوّار العالميون الذين ورد ذكرهم في الرواية، مثل: عبد الكريم الخطابي وعمر المختار وعبد القادر الحسيني وسليمان الحلبي و(نيلسون مانديلا) و(غاندي) و(تروتسكي) و(مالكوم إكس) وغيرهم. فقد تناصوا جميعا و”الخنفشاري” في موقف الثورة على الرغم من تنوّع الأساليب والأفكار. فعلى سبيل المثال: كان (تروتسكي) مناضلا ماركسيا ثوريا قضى حياته مقاتلا واستطاع تأسيس الجيش الأحمر الروسي، والزعيم الزنجي (مالكوم إكس) ناضل ضد عنصرية البيض والإجحاف بحق السود. ويلحق بقائمة الثوّار المفكّر الماركسي الأسود (فرانز فانون) الذي عُرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية”. لكن طريقة التناص معه اختلفت عن الآخرين، إذ اكتفى الكاتب أثناء إقامة علاقة التناص بين “الخنفشاري” والثوّار العالميين باستحضار الشخصيات من خلال ذكر أسمائها تاركا للقارئ البحث في النص الغائب من أجل البناء المعرفي. في حين أنّ التناص بين “الخنفشاري” و(فرانز فانون) وقع بالقول إقرارا للفكرة وتأييدا لها، حيث أعلن “الخنفشاري” – أثناء تعليله لتخليه عن العمل الثوري – عن وجود جهاز استغلالي انتهازي يلحق بكل ثورة ويقطف ثمارها: “وها أنا أرمي خلفي ما عملت من أجله، هل أضحّي من أجل طبقة الأثرياء ليزدادوا غنى ويرفضوني” (ص71). وهو يتّفق بذلك مع ما جاء في رسالة (فرانز فانون) إلى أمه، والتي ذكر فيها “إنه يحارب من أجل أناس معظمهم يصطفون مع عدوهم، وأنه لا فخار أن يحارب من أجلهم”(ص18).
هذا وقد حفلت الرواية أيضا بالعديد من الإحالات الثقافية التي تفرض على القارئ بأسلوب غير مباشر العودة إلى مصادر هذه الإحالات لاكتشاف العلاقة الخفية التي تربط بين النص الحاضر والنص الغائب الكامن في تلك الإحالات؛ مما يزيد من مساحة الاطّلاع والمعرفة لدى القارئ ويثير فيه الدافعية للتحليل والربط والاستنتاج. فقد دعانا الكاتب إلى تصفّح دواوين الشّابي ومحمود درويش للبحث عن أشعارهم التي بشّروا فيها بالحرية، ومن ثم التفكير في سبب ذكر هذين الشاعرين دون غيرهما من الشعراء، أيعود هذا إلى هوىً شخصي لدى الكاتب أم لأنهما أبرز شعراء مقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي؟ كما أثار الكاتب فضولنا لقراءة مذكرات (بابلونيرودا) لاستخراج ما فيها من نصوص تتقاطع مع ما ورد على ألسنة شخوص روايته في التبشير بالحرية.
ويبدو في الرواية تأثّر الكاتب ببعض الروايات العربية والعالمية، مثل: رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح و”زوربا” للكاتب اليوناني (نيكوس كازانتزاكيس)، ولم يُخفِ الكاتب ذلك بل جاء على ذكرهما بالاسم. فالقارئ لروايتي “موسم الهجرة إلى الشمال” و”الخنفشاري” يعثر على تشابه بين الشخصيتين الرئيستين، فكما كان “مصطفى سعيد” يجتذب نساء بريطانيا الباحثات عن المغامرة مع رجل أسود كان “الخنفشاري” يجتذب فتيات الطبقة الأرستقراطية الباحثات عن المغامرة مع رجل خارج عن (إتيكيت) طبقتهن، وكان كلاهما شخصية غريبة الأطوار وعبقرية ومستقلة، يدور في عقلها صراع فكري منشؤوه سوء الوضع السياسي والاجتماعي، ويترك كلٌ من الطيّب صالح ونافذ الرفاعي نهاية روايته مفتوحة دلالة على استمرار الصراع دون وصول الشخصية الرئيسية في كلتا الروايتين إلى قرار حاسم، وكأن كلا الكاتبين يحث القارئ على إعمال عقله واتخاذ قراره الخاص في القضية المطروحة.
والأمر ذاته يجده القارئ لرواية “زوربا”، إذ يتقاطع الكاتب الرفاعي مع (كازانتزاكيس) في إثارة كلٍ منهما الكثير من التساؤلات حول القيود التي تتحكّم في حياة كلٍ منا على لسان بطل الرواية. إذ توصف شخصية “الخنفشاري” مثل “زوربا” بأنها متحررة ، تسعى للتخلص من الأفكار المسبقة والأحكام المفروضة من قِبل الآخرين، ويرى أنّ إنسانيته هي المنطلق الوحيد للعيش ومجابهة الحياة، إلا أنّ “زوربا” يلجأ إلى الرقص ليبدّد غضبه عن عجزه عن الفهم، ويجد في الرقص نوعا من خلق التوازن مع العالم البائس حوله. في حين لجأ “الخنفشاري” إلى مخالفة المألوف ليبدّد غضبه على الوضع البائس ويعبّر عن تمرده عليه، ويجد في الفوضوية الثورية وسيلة لتحقيق المجتمع المنشود.
ويجدر بالذكر أنّ تناص الشخصيات في رواية “الخنفشاري” قد اندرج جميعه تحت تناص التآلف باستثناء تناص الشخصية المحورية مع ذاتها، حيث تناصت شخصية “الخنفشاري” الروائية تناصا تخالفيا مع الشخصية التاريخية، وفي هذا النوع من التناص “يكون دور الشخصية في النص معاكسا لتداعياتها وإيحاءاتها في الوجدان الجمعي للمتلقين”. فقد استحضر نافذ الرفاعي شخصية “الخنفشاري” من التراث العربي، وكان رجلا متعالما يدّعي علم كل شيء، فتآمر عليه أصحابه، ليكشفوا كذبه وادّعاءه. أما شخصية “الخنفشاري” الروائية فقد حمّلها نافذ الرفاعي معنى دلاليا جديدا، حيث جعلها شخصية حافلة بالمتناقضات بسبب متغيرات طارئة على حياتها، أثّرت في القناعات التي توجّه أفعالها. فقد تخرّج “الخنفشاري” في الجامعة بمرتبة الشرف في تخصص الكيمياء، ولكنه عمل خبازا في فرن، وذلك لأن العلم لا يفيد في الارتقاء بالمناصب بل الواسطة. وتم رفض تزويجه من الفتاة التي أحبها لأنه فلاح ليس من مستوى العائلة “لا نعطي فلاحين بناتنا” (ص183). وكان ثوريا دخل السجن، لكنه اكتشف أنّ في كل ثورة صعاليك يهدفون إلى المصلحة العامة، وهناك كائنات طفيلية على الثورات تتعلق بها من أجل تحقيق مكاسب وأمجاد شخصية. هذه المواقف التي تعرّض لها “الخنفشاري” أحدثت في نفسه ثورة عارمة تمثّلت في سلوكه ومظهره وطباعه، وولّدت في داخله صراعا فكريا مريرا نتج عنه تناقض هادف صرّح به الكاتب في قوله واصفا الخنفشاري على لسان فتاته: “يصب تناقضاته في إناء الوعي مرة واحدة” (ص15). هذا التناقض الواعي كان رمزا للصراع الدائر بين الفساد والصلاح بطريقة خارجة عن المألوف.
إذن بطل رواية “الخنفشاري” كان يمتلك كما هائلا من المعرفة والثقافة على العكس مما يدل عليه معنى (الخنفشاري) في القصة التراثية المشار إليها آنفاً، ومن ثمّ دخولها إلى المعجم اللغوي العربي، وقد نبّه الكاتب القارئ إلى ذلك بقوله: “الخنفشاري هو البحث عن معنى ومضمون ودلالة ورمز… ليس في قواميس اللغة” (ص25)، وطلب منه إعادة إنتاج معنى دلالي رمزي يرتبط بطبيعة الشخصية وتناقضاتها؛ مما جعل القارئ يُعمل ذهنه في تفكيك التناقضات التي بثّها الكاتب في روايته ويعيد صياغتها في وعيه ليقرأها بشكلٍ آخر، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للرواية.