
إبادة المثقف المشتبك
بقلم: لبنى منير ديب
إن المثقف الذي قاوم من أجل قضية ملحمية اختزل نفسه بين الثقافة والكلاشنكوف، بعيداً عن سياسات السلام وأوهام الاستسلام. هل بقي أثر الباسل؟ هل نرى المقاوم المشتبك اليوم في غزة بعد أكثر من عام؟ هل وجد الشهيد إجابات لكل الأسئلة التي كانت تؤرقه؟ وهل يريح الموت وحشة أرواحنا؟ كيف لنا أن نفكر داخل القبر المعتم، أو حتى داخل خيمة ملونة عاجزةً وناقمة على قدرٍ ساقنا لمأتمٍ يومي؟
أريد أن أرى الكون في كتاب، لكني أجد نفسي غارقة في متاهة الورق أمامي. اليوم، غرقت عيناي بالدموع وأنا أمام طاولة صنعها والدي من خشب خيمتنا المنسية، وضعها أمام حائط البيت المستأجر. فكرت في الآلاف الحالمة بحائط ترتكز عليه. لا أنسى أحلامي التي أعدمتها الشهور تحت سقف الشادر اللعين.
ربما كرهت الشادر لأنه لم يحمِ أختي الشهيدة من رصاصة الموت، تلك الرصاصة التي مزقت قلبها وغيرتني إلى الأبد. لا أريد أن أنسى ذلك اليوم الذي جعلني باسلة جديدة، بنظارات ذات إطار داكن وحادة الطباع. السنة الأولى من الحرب مضت، وصقلت منا أشخاصاً برغبات جديدة، معتمة وباهتة، وكأنها وصية الحرب الأولى فجراً.
أمام البلاد المكدسة بالخراب، أقف خرساء. من يصف المشهد؟ كتاب يتحول إلى وقود للنار، أو قرطاس للفلافل، ذلك القرطاس الذي كان يوماً عقداً لأرض متنازع عليها. هل بقيت الأرض أم أكلتها الحرب؟ أصحاب الأرض لم يعد لهم حاجة للمحكمة أمام هذا الخراب. قضيتهم أكلها الجشع والأنانية في حربٍ أخرى.
إلى المثقف المنسي
إليك يا أيها المثقف المنسي في زاوية السوق، بين الخيام المكتظة، وأمام ركام البيوت المهجورة. في ذكرياتك المتعفنة تتراكم تساؤلات لا إجابة لها. أهديك اختصار كل شيء في كلمة واحدة: مقاوم. قاوم شلال أفكارك، انفض غبار الشك عنها، وضع لكل سؤال إجابة.
هل أريد الكتاب أم زاوية السوق؟ قرطاس الفلافل أم جريدة الصباح؟ خيمة أم بيتاً سقفه الطموح؟ هذا العدو يريد إبادة تحررك، يريد جعلك سجين الوحدة وخيانة العروبة. يريد أن يمحو عقيدتك ويغرس فيك إلحاداً غاضباً. احذر أن تبيدك الحرب، فخسارة الحرب ليست فقط في البيوت والذكريات، بل في ذواتنا التي تلاشت وماتت.
أنا لست متفائلة، ليس هناك ما يدعو للتفاؤل، لكني أتمسك بأمل أن كياني سيغير الكثير من القليل الذي أملكه. كيف يمكن أن تدفن نفسك في وقت يحتاج إلى قوتك؟ حارب نفسك، قل لها: “أنتِ حرب مستقلة، وسأنتصر عليكِ يوماً ما”.
شارك نفسك قصيدة عن الحب، اضحك على مهزلة تاريخية، واكتب عنها مجلدات تقرؤها الأجيال القادمة ليقولوا: “هناك، بجانب السوق، عاش النكبة ولم يصدقها”.
الحرب إبادة جيل كامل
الحرب حفرة تدفن فيها الأحلام. عشرات الآلاف من الشبان اليوم ينسون هدف الحياة ويغرقون في أعمالهم الشاقة. المهندس يعرض مخططاً لمخيم جديد، الطبيب يبتكر دواءً من الأعشاب، المحامي يتنازل عن مهنته، والمعلم يراقب تجهيل الأطفال. حتى وسائل النقل عادت إلى زمن يجره حمار.
يعود بنا الزمن خمسين عاماً، لنكتب تغريبة جديدة بقلم جيل التكنولوجيا، الذي عاش الكهرباء ونسيها.
كلمة أخيرة
أعلم أن النص غريب، وأن السطور تبدو وكأن لا علاقة لها ببعضها، ولكني أكتب لأنجو من وحش ينهشني. أكتب لأبعث الأمل في قلوب الآخرين، وأقول لنفسي ولكم: سنبني حياةً أخرى.
على أمل أن يزول الألم.


