الذات والصراع النفسي في رواية “خلف ستائر فيينا” للكاتبة لوريس الفرح

الذات والصراع النفسي في رواية “خلف ستائر فيينا” للكاتبة لوريس الفرح
بقلم: ناهـض زقـوت/ كاتب وناقد من فلسطين
بعد انتهاء فترة الاستعمار عن البلدان العربية نظر الروائي العربي إلى العلاقة مع الغرب على أنها علاقة صراع حضاري، فكتب مقارناً بين الشرق والغرب محاولاً التأكيد على أفضلية الشرق في الأبعاد الإنسانية. أما في زمن الهجرة العربية سواء الطوعية أو القسرية نحو الغرب، تغيرت نظرة الروائي للعلاقة من نظرة صراع إلى نظرة تأثير وتأثر، بمعنى إلى أي مدى تأثر الشرقي بالقيم السائدة في المجتمعات الغربية، وانعكاس هذه القيم على سلوكه وتصرفاته، فكانت روايات الغربة التي كتبت من الروائيين العرب تعكس هذه التأثرات، وتعكس صراع الإنسان مع ذاته في مواجهة قيم الغرب.
وانطلاقاً من هذه الرؤية كانت رواية (خلف ستائر فيينا) للكاتبة لوريس الفرح، والصادرة عن مكتبة سمير منصور بغزة عام 2022. لوريس الفرح كاتبة سورية من حمص مقيمة في النمسا، درست الأدب الإنجليزي في دمشق. أصدرت مجموعة قصص قصيرة، وترجم منها للألمانية ونشرت مع مجموعة قصص لكتاب من العالم, فازت بالمرتبة الثانية بمسابقة سورية الدولية للقصة القصيرة، ولها كتابات ومقالات نقدية عن روايات عربية وغربية. عضو اللجنة الأدبية بالبيت العربي النمساوي، وفي ملتقى التواصل العربي النمساوي، وملتقى القلم النمساوي في فيينا. تعد هذه الرواية باكورة أعمالها في مجال الرواية.
يمثل عنوان الرواية (خلف ستائر فيينا) إعادة انتاج الدلالة السردية المنسجمة مع أحداث الرواية التي دارت في فيينا عاصمة النمسا، تلك الأحداث المتعلقة بقصة الحب المشبعة بالعواطف الإنسانية والرومانسية. من هنا جاء العنوان معبراً عن عالم خفي قائم على الحب والاشتهاء المحرم أو الممنوع، وهذه السرية التي حملتها الرواية في 314 صفحة، تجعل القارئ يلهث خلف صفحاتها مستمتعاً بأحداثها وبجماليات اللغة الشاعرية التي عبرت عن أسلوب الكاتبة في اختيار كلماتها وجملها المباشرة والايحائية لوصف العلاقة بين شخصيات روايتها.
ولكن لماذا كان هذا الحب خلف الستائر، وليس أمام العلن، تلك هي حالة الغموض التي يوحي بها العنوان المرتبط سياقياً بأحداث السرد، التي جاءت ذروتها في المكان المغلق، المسدل الستائر، المتمثل في الشقة وغرفة النوم، لذا غلب على الرواية زمن الليل الذي يوحي للقارئ بالتفكير في المواضيع الحساسة كالحب والجنس، فثمة قصة حب تنامت وتطورت في الغرف المغلقة بين رامي (الأخ) ولين (زوجة الأخ) كما نقرأ في النص، تلك العلاقة التي لم تكتمل فصولها لمحذورات الواقع، وتعقيد العلاقة بين الطرفين. تحاول الكاتبة أن تزيح هذه الستائر التي تغلف الواقع وتعبر عن المشاعر المتناقضة التي تعتري الإنسان وتجعله يقف حائراً بين القدر والحياة.
اختارت الكاتبة بناء روايتها باستخدام تقنيات روائية تؤكد على ابتعادها عن الأسلوب التقليدي في كتابة الرواية، فحملت في طياتها ملامح التجريب والنضج في الأسلوب والصياغة اللغوية الشاعرية، ومعتمدة على التنويع في الضمائر ما بين ضمير المتكلم، وضمير الغائب، والمنولوج الداخلي، والحوار الداخلي مع الذات، والحوار الخارجي مع الآخرين، والأحلام، وتعدد الأصوات، والصوت العليم بكل شيء، كما تغرق الرواية في عالم من المشاعر الساحرة، واللغة الجميلة المحملة بدلالات العشق والحب، تجعل القارئ يعيش حالة الرومانسية مع أبطال الرواية ويتفاعل مع مجريات الأحداث. لقد حاولت الكاتبة أن تؤكد على البعد الدرامي في نصها من خلال سرد الأحداث، واستخدام تقنيات السينما من انخفاض نبرة صوت الشخصيات وارتفاعها وتحولها، فأشارت إلى ذلك بين قوسين (تغيرت نبرة صوت لين وتحولت إلى قوة وثقة) في محاولة لوضع القارئ أمام شاشة كبيرة كأنه يشاهد فيلماً سينمائياً لا يقرأ كتاباً. لذلك هي من أجمل الروايات التي يمكن تحويلها إلى عمل درامي سينمائي.
بكل تلك التقنيات صاغت الكاتبة روايتها على قصة حب وصراع يدور بين الشخصيات، في زمن قريب وهو القرن الحادي والعشرين، فحينما يتعقد الموقف بين ريم وتيم في مسألة الإنجاب قال لها (نحن الآن في سنة الألفين وربما وجدنا حلاً للمشكلة عن قريب). وتنتقل بالأحداث بين مكانين وهما دمشق الذي يعتبر الموطن الأصلي للشخصيات، والذي تبدأ منه أحداث القصة، وعلى أرضه تختم القصة فصولها، وفيينا البلد الغربي الذي يشكل مكان استقرار للشخصيات بعيداً عن تعقيدات المجتمع الشرقي، ولكن حركة الشخصيات تتنقل ما بين البلدين. وما بين دمشق وفيينا نجد أعماق الرواية يعبر عن تباين مدى تأثر الشرقي بقيم المجتمع الغربي من خلال رؤية الكاتبة لهذا المجتمع سواء عاشته أم تخيلته، فهي تبتعد عن عالم الصراع مع الغرب، ولا تقدم تصوراً منحازاً للغرب، بل نجد الشخصيات منسجمة بجماليات فيينا وبنسق حياة سكانها، لذا كانت رؤيتها لصراع الشرقي مع ذاته أو مع أخرين في المجتمع الغربي. وتبرز هذه المسألة جلية في صراع الحب بين لين ورامي، ومسألة الشرف والخيانة، ومسألة العذرية عند المرأة الشرقية. ولكن عندما عانت الشخصيات من حالة نفسية صعبة، ولم تستطع الوصول إلى حالة الإنسجام مع ذاتها أو مع الآخرين في ظل الواقع الذي تعيش فيه، مما أدى بهم إلى مصائر مؤلمة. رفضت هذا الواقع، بعد أن تحولت جنة فيينا إلى صحراء قاحلة متناقضة المشاعر والأحاسيس في رأيهم، ويأتي صوت الكاتبة ليحكي عن الجميع “فيينا الجنة التي أتيناها بغبار أرواحنا التائهة تحولت على أيدينا إلى صحراء عشنا فيها هذا التيه العظيم، كل منا ضل الطريق إلى ذاته، وإلى ما يحب، وإلى من يحب، ويوم اهتدى إليه، هبت ريح عاتية تخطفت كلاً منا من يد الآخر، بددتنا كأننا كومة من غبار، وفي فيينا لا وجود للغبار”.
إن المكان لم يتغير في وجهة النظر، إنما التغير كان بأيدي القاطنين في المكان، وهذا يعطي دلالة على أن الانسان هو الذي يقرر مصيره في المكان بأن يخلق جنته أو تعاسته. فما كان منهم إلا مغادرة المكان إلى دمشق.
ورغم ما قاله رولان بارت عن الشخصية الروائية بأنها كائن من ورق، بمعنى أنها مختلقة من خيال الكاتب وليست حقيقية، ولكن هذه الشخصية تعيش الواقع بيننا وتتفاعل معه، وبناء على خط سير الأحداث الذي يرسمه الكاتب، فهو إذن صاحب الشخصية وخالقها روائياً، وقد لا ينتج شخصية واحدة للبطولة بل ينتج عدة شخصيات لكي يخلق تفاعلاً وحراكاً بينها يضفي جمالية على النص السردي.
في هذه الرواية لم يكن ثمة بطولة فردية فيها، بل بطولة جماعية، أصوات متعددة كل صوت يقدم رؤيته تجاه الآخر، أو يتناقش معه في قضية ما أو موقف ما، وكل شخصياتها هم أبطال حركة الصراع، وكل شخصية لها صراعها الخاص مع إحدى الشخصيات، وكل شخصية لها حضورها المميز عن الشخصيات الأخرى. ورغم الشعور بحالة الانسجام بين الشخصيات إلا أن ثمة صراعاً نفسياً يسربل تلك الشخصيات، ويعقد العلاقة بينهم. فنجد الرواية تطرح العديد من المواقف المرتبطة أو المتعالقة بالشخصيات الروائية. هذه المواقف والرؤى حملتها الرواية بأصواتها المتعددة، ولكن ثمة صوت خفي قابع بين هذه الشخصيات يتحكم بحركة الأحداث والشخصيات، ويدير حالة الصراع داخل الرواية، وهذا الصوت هو الصوت العليم العارف بكل شيء، وهو صوت الكاتبة الموجود ضمن الأصوات في حالة تفاعل بينها وبين الشخصيات، وتخلق حالة تعادل بين الشخصيات بحيث يكون من المتعذر تحديد الموقف الذي تتبناه الكاتبة، فهي تدير الصراع في حالة حياد تام، وبمشاركة الشخصيات في التعبير عن مواقفها ورؤاها في ظل غياب البطولة الفردية.
وقد توزعت شخصيات الرواية بين شخصيات مركزية تساهم في تداعيات الأحداث وسردها (تيم، ورامي، وريم، ولين)، وتساندها شخصيات هامشية تساهم في استكمال سرد الأحداث (تالا، أسامة، هالة، والد تيم، والدة تيم، والدة ريم، والد لين)، وجميعهم يمثلون الطبقة البرجوازية في المجتمع السوري، تلك الطبقة على المستوى الايديولوجي متناقضة مع ذاتها، رغم التزامها بقيم المجتمع، فنجد:
شخصية (تيم): شخصية مستسلمة لا طموح لديها، مستسلمة للواقع دون محاولة تغييره، أو السعي لتغييره، وشخصية أنانية لا يفكر إلا في نفسه، ولا يفكر في المستقبل إلا في حدود علاقته بريم، وليس معنياً بأحد، ولم يكن يتخيل وجود أي شيء يمكن أن يغير مسار حياته، والزمن عنده يبدأ من عند ريم وينتهي عندها، وحينما تفرض عليه ريم الزواج بأخرى، ترتفع وتيرة الصراع النفسي عنده ويقف حائراً بين موقف ريم الحازم، واختفائها من أمامه حتى ينفذ شرطها بالزواج. ويخضع تيم لمطلبها، وتبدأ عائلة تيم في تنظيم الحفلات للبحث عن عروس، حتى وجدث والدته (عالية) الفتاة المناسبة (لين). وقد وصل تيم إلى حالة اللامبالاة التي كانت نتيجة طبيعية للحياة التي يعيشها مع ريم وحبه الشديد لها، مما كان لها تأثير كبير على سلوكه ونفسيته وعلاقاته الاجتماعية، وأوصلته إلى عدم القدرة على التكيف ما بين علاقته مع ريم، وعلاقته مع لين، وهذه الانانية دفعته للاستسلام بأن يترك لين تواجه مصيرها بنفسها دون اهتمام أو رعاية أو حماية، وأن يبقى بجوار ريم يرعى شؤونها.
شخصية (ريم): تلك الشخصية العاشقة لتيم، وتشكل قصة حبهما محور الرواية الأساسي الذي تدور حوله الأحداث، تلك العلاقة الحميمية التي كادت تثمر عن زواج، ولكن مرضها في القلب دفع الطبيب إلى تحذيرها من عدم الانجاب في حالة الزواج، هنا تعقدت الحياة الوردية وغابت الأحلام المشتركة بينهم بأن يكون له منها جنيناً، وأخذت الصراع النفسي بينهم مساحة كبيرة في الرواية لكي يقنعها بالزواج والارتباط ويتنازل عن مسألة الطفل، ويتدخل والده (نجم الأسمر) لكي يحسم الأمر في رفض مسألة تبني طفل (وقد قدمته الرواية كشخصية متناقضة في هذا الموقف، إذ كان مسبقاً موافق على موضوع التبني، ولكنه الآن يرفض هذا الموضوع، وفي النهاية يشعر بالندم ويعتبر نفسه مسؤول عن كل ما حدث مع ابنه)، وتصل العلاقة إلى ذروتها عندها لم يكن أمام ريم إلا أن تضحي بحبها وتدفعه للزواج بأخرى لكي ينجب طفلاً فهي تعرف مدى حبه للأطفال. ولكن القارئ يكتشف أن حبه لريم كان أقوى من حبه للأطفال، فلم يتخل عنها رغم زواجه بأخرى التي أهملها ولم يسع من خلالها إلى انجاب الطفل، ولم يكن متلهفاً لهذا الموضوع، بل وصل به الأمر إلى ترك لين عذراء.
ورغم تضحيتها بالزواج إلا أنها كانت أنانية ومتناقضة، فهي ضحت بتيم كزوج، ولكنها لم تضحِ به كعشيق وحبيب، وبقيت متمسكة به، بل استطاعت أن تبعده عن زوجته ويهمل وجودها. وحين علمت أن لين حامل لم يحتمل قلبها المفاجأة فتوقف عن الخفقان.
شخصية (لين): شخصية مثقفة واعية، ولكنها تعاني من قيود المجتمع الشرقي، ومن موقف والدها الحازم في رفض سفرها وتحقيق أحلامها، فوجدت في مشروع زواجها من تيم الخلاص من أزمتها، وفي سفرها معه إلى المجتمع الاوروبي للبحث عن الحرية والانطلاق في مجتمع تسوده العلاقات الانسانية المفتوحة دون قيود، وفور وصولها بدأت البحث عن ذاتها بتعلم اللغة والدراسة وتكوين الأصدقاء. ولكنها شخصية متناقضة فهي من أجل تحقيق أهدافها غضت الطرف عن علاقة تيم زوجها مع ريم، ورغم محاولاتها أن تكسبه إلى جانبها، إلا أنها لم تفلح، وبعد أن شاهدت تيم وريم في الشارع معاً تحطمت ثقتها بنفسها وبتيم. تواصل اهمال تيم لها لدرجة أن تركها في منزل أخيه تواجه مصيرها، وأصبح مقيماً عند ريم، ومتفرغاً لرعايتها، كأن لين لا تحتاج أيضاً إلى رعاية واهتمام، فتركها في رعاية أخيه رامي، مما جعلها تبحث عن الحب والأمان لدى رامي.
بدأت تنمو علاقة خفية بين لين ورامي، نتيجة شعورها بالفراغ والوحدة في ظل غياب تيم عنها، فهي تبحث عن الشعور بالأمان، ولم يوفر لها تيم هذا الشعور، ولكنها بدأت تستشعر هذا الشعور عند رامي، فهو المنقذ الوحيد لها من أزمتها العاطفية مع تيم، والقادر على إحياء روحها وينعش أمل الحياة في نفسها، لذا أصبح لديها نظرة مغايرة لرامي ومحاولة الاقتراب من أشيائه، ولبس قمصانه، وتنام أحياناً في سريره في غيابه. كانت تحاول دائماً أن تلفت انتباهه بلباسها وإلى تعلقها به، هو كان يدرك ذلك، ولكن قيود المجتمع الشرقي ما زالت راسخة في داخله، فهو أمام زوجة أخيه ولا يمكن أن يخونه، لهذا تباين الموقف بينهما في مسألة الشرف والخيانة، تقول لين في منولوج داخلي: “هل هذا هو الحرام الذي يتكلمون عنه؟ وكل ما حدث من عبث وفظاعة معها سابقاً هل يسمى حلالاً؟ (تقصد اهمال تيم لها رغم أنه زوجها وارتمائه في أحضان غيرها)، هل حقاً حين يتحدان للحظة واحدة، سيتحولان إلى خائنين يستحقان الرجم بالحجارة؟!، كل هذا التوق والنقاء ألا يغفر لهما عناقاً واحداً؟ أهذا هو الشرف؟. سحقاً لهذا الشرف القادر على تقديم كل هذا القهر دفعة واحدة”. لقد كان نداء الجسد لديها أقوى من رجولة رامي.
شخصية (رامي): هو الأخ الأكبر لتيم، يقيم في النمسا، وغير متزوج، وعلى علاقة حميمية مع تالا الفتاة اللبنانية. شخصية متوازنة ومتسقة مع ذاتها، تعرف الأصول والحدود، لديه القدرة على التحكم في مشاعره. لا يكره أخاه تيم، ولكنه دائم الانتقاد لسلوكه وتصرفاته خاصة في اهماله لزوجته لين، ولكن تيم يبرر موقفه أن متفاهم مع لين على طبيعة العلاقة بينهم.
بعد زواج تيم من لين ينتقل بها إلى فيينا، ولم يختار لها بيتاً مستقلاً، بل أقامها في بيت أخيه رامي، الذي ترك لهما الشقة وانتقل للعيش عند عشيقته تالا في شقتها. وكان سبب الذي دفعه لكي يقيم في بيت أخيه أنه عقد النية على تركها لرعاية رامي، لذا أصبحت لين في رعاية أخيه، يأخذها معه للتسوق، يشربان القهوة معاً في الكافتيريا، ويأخذها في رحلة إلى باريس، وفي رحلات التخييم، وزيارة مزرعة الخيول، ونقاشات ثقافية وفكرية بينهم عن الفروقات بين المجتمعين العربي والغربي، فأصبح التقارب بينهم حتمي.
وقد صلت العلاقة بينهما إلى حد المكاشفة، ولكنها لم تتجاوز الخوف عليها والرعاية، فلم يستطع رامي أن يلبي رغباتها وجنون الشهوة لديها، وقد وصفت الرواية في مشهد من أقوى مشاهدها الجمالية حالة المواجهة بين لين ورامي وهما في قمة الشوق والاستسلام للشهوة، ولكن رامي لم يستطع رغم وصوله إلى أقصى لحظات الضعف الإنساني أمام جسد لين الطافح بالأنوثة، إلا أنه حسم أمره وكسر جماح نفسه واختار الصمود والرجولة، والمحافظة على الأمانة التي أؤتمن عليها، فمازال للتربية الشرقية التي تربى عليها تأثير في نفسه رغم حياته في المجتمع الغربي، وعلاقة المعاشرة مع تالا، إلا أنه لم يخن أخيه، وكان دائماً يحاول أن يجعل مسافة بينه وبين لين. رغم أنه كان في داخله يحبها ويتشوق إلى احتضانها، وقد انعكس ذلك الاشتهاء في تفريغ مكبوته الجنسي في الحلم. إلا أنه لم يستطع الاقدام على خطوة واحدة تكسر من رجولته، لذلك عندما خرجت عليه تلبس قميصه على بنطلون جينز كانت في حالة من الجنون، وحين هزها قالت بكل سخرية: في هذا البيت لستم بحاجة إلى الاناث، فما كان منه إلا الصراخ في وجهها عن أي أنوثة تتحدثين وأنت زوجة أخي، وعندها تخبره أنها زوجة أخيه على الورق.
وتتجلى قمة صراع رامي مع ذاته ومع لين حينما يكتشف أنها ما زالت عذراء، إذن هي لم تصبح زوجة أخيه، عندها يكشف حبه لها أمام عائلته وأنه يرغب بالارتباط بها بعد التفريق بينها وبين تيم، مما شكل صدمة كبيرة لدى عائلته.
تأخذ الرواية منحى آخر في عقدة الأحداث وحركة الشخصيات، وتتأزم المواقف والرؤي بدرجة كبيرة، بعد أن وشت (تالا) التي سيطرت عليها الغيرة حين اكتشفت أن رامي على علاقة مع لين، واعتدى عليها بالضرب بعد أن نعتتها بالعاهرة، فاتصلت مع تيم وأخبرته عن هذه العلاقة، فيأتي إليها كل المجنون، وحين تنفر منه لين وتصده، يخرج عن طوره ويغتصبها وهي شبه مغمى عليها، ويكتشف أن زوجته العربية التنشئة ما زالت عذراء، وهذا يشير إلى الفروقات بين المرأة العربية والمرأة الغربية في مسألة الحفاظ على العفة والعذرية. ويدخل رامي وأسامة أخيهم الأصغر إلى البيت ليشاهدا ما فعله تيم مع لين، وكانت حالة تيم يعتريها الذهول والندم، ولم يحتمل رامي مشاهدة الدم على السرير، فهاج بغضب وهجم على أخيه بالضرب، واستسلم تيم لضربات أخيه دون أن يدافع عن نفسه. وأخذ رامي يفسر علاقته مع لين بأنه لو خير بين الموت والخيانة لاختار الموت، لين كانت تبحث عن الأمان الذي أنت لم تمنحه لها.
بعد هذه الحادثة أصبح تيم في حالة استسلام، وأنه مستعد لفعل أي شيء من أجل اصلاح ما أفسده، وفي حوار داخلي يصل إلى قناعة أن رامي أولى بها، ويستسلم للتخلي عنها، فهو أصلاً متخلياً عنها ولم يمنحها الأمان والحب يوماً، بل كانت ريم كل حياته ويعيش معها، ورامي هو الذي منحها الحب والأمان. عاد الكل إلى دمشق فهي بالنسبة لهم موطن الراحة والهدوء بعد العواصف التي مروا بها، وكان شعور لين أنها المرة الأخيرة التي سوف تطأ قدماها أرض فيينا، كذلك ريم بعد خروجها من المستشفى تغيرت نظرتها إلى فيينا فلم تعد بجمالها بل أصبحت تشعر بوحشة وذكريات مفجعة، فعادت إلى دمشق.
في دمشق تزداد حالة الصراع النفسي بين لين وتيم ورامي. بعد دخول لين المستشفى ويكتشفوا أن لين حامل في شهرها الثاني، حالة من الصدمة والذهول تصيب الكل وهم ينظرون إلى رامي، الذي انتابه شعور بأن معركته الأزلية ليست مع أحد، بل مع القدر نفسه الذي وقف له بالمرصاد. وتستغرب العائلة من موقف تيم في مطالبته بإجهاض الجنين، وعندما تعلم ريم بحمل لين يقع عليه الخبر كسهم اخترق جسدها، فلم يحتمل قلبها الصدمة، فتموت.
يقف ثلاثتهم (تيم، لين، رامي) على مفترق طرق لا يبدو من خلاله أفق لأحدهم. إلا الانسحاب فالخيارات أمامهم صعبة ومستحيلة، فلم يقبل رامي اجهاض الجنين وقتل حلم أخيه في حوار مع لين، ورمى في وجهها قنبلة بأن وجود الطفل قتل كل حق لهم بالوجود معاً. أما تيم الذي استمع إلى حوارهما خلسة، كان يسعى لإنقاذ آخر ورقة رابحة في جملة الخسارات التي جناها، ولكن كما يقول: هل موته سيحل الموقف، أم اجهاضها، أم اعلانه الحقيقة، أم رحيله. عند الفجر سمعت لين سيارة تغادر الكراج من الباب الخلفي للمنزل. من الذي غادر رامي أم تيم؟، لا ندري. لقد تركت الكاتبة النهاية مفتوحة على أسئلة ما زالت عالقة في فضاء لين.
تتجلى جماليات الرواية في لغتها الشاعرية التي تسمو بالسرد وتغرق القارئ في حالة من النشوة والأحلام الوردية، وتجعله حائراً بين رؤى متعددة ومتباينة، وأسئلة تزخر بها الرواية تطرحها الشخصيات دون القدرة على الإجابة، لأنها تعبر عن مصيرهم، وعن عدم قدرتهم على الانسجام مع الواقع في ظل الأزمات التي واجهتهم، كل هذا أثر على نفسياتهم، وساهم في اعادة تشكيل رؤاهم وتبدل مواقفهم.
لقد كانت كل شخصية من شخصيات الرواية تشعر بالضياع، وأن خلاصها لا يكون إلا من خلال الآخر، فنجد ريم خلاصها في علاقتها مع تيم، وكذلك تيم خلاصه أن يبقى مع ريم، في حين أن لين تجد خلاصها في علاقتها مع رامي، وكذلك رامي خلاصه في يد لين. وهذا الضياع أو الصراع النفسي للذات سببه عدم قدرة هذه الشخصيات على الانسجام مع واقع حياتها، هي تعرف سبب معاناتها، ولكنها تحاول أن تهرب منه خوفاً من مواجهة الحقيقة، ولكنها في النهاية تغلبت على خوفها وواجهت الواقع.
ورغم فيض المشاعر الرومانسية إلا أنها تبقى رواية واقعية تأخذ القارئ بمتانة السبك وقوة الحدث في إطار من التشويق، إلى عالم من الجمالية الرومانسية المفقودة في عالم المادة وتفتت المشاعر والأحاسيس نتيجة ضغط الواقع ولجة الأحداث التي يواجهها الإنسان في الحياة.
لقد استطاعت الكاتبة بقدرتها على امتلاك الموهبة السردية، وقوة التعبير اللغوي في طرح الصراع بين الحب والرغبة، وبين الأخلاق والقيم من أكثر من زاوية، وطرح رؤى جديدة لموضوع التضحية والإرادة والرضوخ للقدر والحب والعجز وصراعات الإنسان مع ذاته وما بينه وبين الآخر والحياة. كما تمكنت بقدرتها على التلاعب بمشاعر القارئ من خلال الحبكة الروائية التي ما يكاد يشعر بذروة الحدث وقوته، ليتفاجأ بتسربها من بين أصابعه، ويجد نفسه أمام ذروة جديدة أعنف وأقسى، تخالف توقعاته وصولاً إلى نهاية مفتوحة تحفز خيال القارئ وتدفعه دفعاً إلى التورط في متابعة الأحداث. التي ما تنتهي من قرأتها حتى يجد القارئ نفسه متعاطفاً مع الشخصيات بالرغم من أخطائهم وأهوائهم الجنونية، وذلك لأن الحياة سيرتهم كما تريد، وهم لا يملكون أمامها أي قدرة على التغيير، مما أدى بهم إلى مشكلات نفسية معقدة تتراوح بين الخوف، والعزلة، والاستسلام، والانسحاب من الحياة.
إن الكتابة عن الرواية لا يغني عن الاستمتاع بقراءتها، فالقراءة هي المتعة الحقيقة ولذة الانتعاش التي يشعر بها القارئ في مدلول الأجواء الرومانسية التي حملتها الأحداث واللغة الروائية، تلك التي تشحن القارئ بطاقة شعورية تخرجه من الواقع المؤلم إلى عالم من الأحلام الوردية. ومع ذلك نؤكد أن الرواية مفتوحة على قراءات ووجهات نظر عديدة، فما ترسمه الكلمات التي نقرأها قد نعيشه واقعاً في الغد.