صلاح أبو لاوي: شاعر المقاومة والمنفى – الشعر هو مشروعي الأوسع

صلاح أبو لاوي: شاعر المقاومة والمنفى – الشعر هو مشروعي الأوسع
خاص – اليمامة الجديدة
حوار مع صلاح أبو لاوي: شاعر المقاومة الفلسطينية وصوت من المنفى
في عالم الشعر العربي الحديث، يُعتبر الشاعر الفلسطيني صلاح أبو لاوي واحداً من أبرز الأصوات التي حملت هموم القضية الفلسطينية وصاغتها شعراً ملهماً يفيض بالأمل والصمود. بين المخيم والذاكرة، وبين الوطن والمنفى، نسج أبو لاوي تجربته الشعرية التي لا تنفصل عن واقع شعبه ولا عن إرث الأمة.
في هذا الحوار الحصري مع صحيفة اليمامة الجديدة، نستكشف أعماق التجربة الشعرية لصلاح أبو لاوي، ونقترب من جذور إبداعه الممتدة في التربة الفلسطينية، حيث حملته بداياته في مخيم الزرقاء إلى فضاءات أوسع، وأصبح صوتاً يردد أحلام العودة والتحرير. يتحدث الشاعر بشفافية عن دوره كشاهد على الألم وراوٍ للأمل، ويضيء على العلاقة الوثيقة بين الشعر والمقاومة، وكيف يمكن للكلمة أن تكون سلاحاً يواجه الاحتلال وسردياته.
من خلال هذا اللقاء، نتعرف على مسيرة أبو لاوي الشعرية المتفردة، والتي تندمج فيها التجربة الشخصية بالهمّ الجماعي، ونستكشف رؤيته للمشهد الثقافي الفلسطيني المعاصر وتحدياته، بالإضافة إلى نصائحه للأجيال الشابة التي تتلمس طريقها في عالم الشعر.
هذا الحوار هو شهادة حية على كيف يمكن للإبداع أن يكون صوتاً للحرية، ومرآة لقضية لا تزال تنبض في قلب كل عربي.

- في بداية حوارنا، كيف تصف تأثير البدايات والبيئة الفلسطينية في تشكيل مسارك الشعري؟
بداية أترحّم على الشهداء وأدعو الله أن يشافي الجرحى وأن ينزل رحمته على شعب فلسطين المقهور الذي يتعرّض لأبشع عدوان عرفته البشرية وأن يكلّل مقاومته بالنصر وفلسطين بالتحرير.
البدايات هي ذلك الضوء البعيد الخافت الذي يظلّ محفوراً في ذاكرة وأعمال المبدع، كونه الأساس الذي أنار طريق الخطوات الأولى، ووضع المبدع على أوّل درجات الإرتقاء.
كانت بداياتي في مدرسة (الوكالة) في مخيّم الزرقاء، وكان معلمو مدارس الوكالة يعلموننا ألف باء فلسطين قبل تعليمنا الحساب والعلوم، فتعرّفت على فلسطين مبكرّاً من خلالهم، بالإضافة إلى حكايات أمّي، الفلّاحة الأميّة البسيطة، ولا أقول أبي، لأنني عشت يتيم الأبّ، وقد كتبت ذلك في قصيدة ” عنان..مقاطع من سيرة لم تكتمل”.
أستاذ اللغة العربية في ذلك الوقت المبكر اكتشف موهبتي في الكتابة، فتبرّع وعلى حساب وقته أن يعلّمني بحور الشعر، وهو ما كان، في المرحلة الإعدادية، ونصحني بقراءة الشعر ووفّر لي مراجع لشعراء العربية الأهمّ، وخاصة المتنبي، وهكذا تلمّست طريقي، وبدأت بكتابة الشعر البيتي قبل أن أقرأ شعراء الأرض المحتلّة، ونزار قباني وبدر شاكر السيّاب الذي كان له التأثير الأكبر على تجربتي، وهكذا.
حكايات أمّي والمخيّم وحي جنّاعة الذي ولدت فيه، وهو ملاصق تماماً لمخيم الزرقاء، هم من جعلني أوقن أنني ولدت من رحم مأساةٍ كبيرة، وأنني إذا أردت أن أكون شاعراً مهمّاً، كما كنت أحلم، فلا بدّ أن أنطلق من هذه المأساة، وأن أكون لسان حال هذا الشعب المنفيّ، وكبرتْ أحلامي معي.
- كثيراً ما تتناول قصائدك مواضيع الوطن والمنفى. كيف تتجلى هذه الثنائية في كتاباتك؟
زرت فلسطين مرّة واحدة، ومنذ تلك الزيارة وأنا أرى العالم صغيراً كثقب إبرة، وأراها واسعة ككونٍ شاسع، تركت روحي هناك، وعدتُ جسداً أكثر إصراراً على العودة، وأنها لا بدّ أنْ تتحرر، ورغم اشتدار الظلم زالظلام، فما زلت مؤمناً بتحريرها كاملة غير منقوصة.
نحن في المنافي الكثيرة نكتب أحلامنا، فهي تعيش فينا، أعني فلسطين، ولا أبالغ إن قلتُ إن الشعر الفلسطيني خارجها، الذي نكتبه، أكثر ايماناً بها من الشعر الذي يُكتب داخلها، خاصّة بعد التحولات السياسية ومعاهدات الإستسلام للأمر الواقع التي وقّعتها قيادة الشعب الفلسطيني.

هل تعتبر الشعر أداة مقاومة وصمود للشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن للأدب أن يسهم في توثيق نضالات الشعب؟
نعم
كلّ هذه الأغاني الثوريّة التي تربينا عليها، والتي تشحذ همم الناس، هي شعر، وكلّ قصيدة ثوريّة هي رصاصة في قلب المحتلّ، وكلّ قصيدة مترجمة من هذه القصائد، هي بيانٌ مثقّف لشعوب العالم.
علينا أن نتذّكر ونحن نتحدث عن أهمية الشعر المقاوم، أنّ أحد قادة العدو، رفع قصيدة محمود درويش في الكنيست، عابرون في كلامٍ عابر، وقال لهم أنظروا ماذا يكتب شاعرهم، وهذا يعني أنّ القصيدة أصابته في مقتل، وما اغتيال كبار أدباء فلسطين وعلى رأسهم غسان كنفاني وناجي العلي، وماجد ابو شرار وغيرهم، إلّا دليل على تأثير الكلمة عليهم، ومعرفتهم، أكثر منّا للأسف، بخطورة انتشار هذا الأدب ووصوله إلى العالم، فنحن وهُمْ، في صراع حضاري وتاريخي، وديني، على هذه الأرض، والسردية التي تنتصر هي السردية الباقية.
ليس من وظيفة الشعر التوثيق، وإن كان يفعل ذلك بطريقةٍ أو بأخرى، إنما وظيفته الأساس مواجهة السردية الصهيونية، من ناحية، وإبقاء جذوة النار في الجمر الفلسطيني متّقدة من ناحية أخرى، وهذا لا يعني أبداً التنازل عن الأدوات الفنية وشروط الكتابة بأي حال من الأحوال.
- ما هو الدور الذي لعبته التجربة الشخصية والذاكرة في صياغة رؤيتك الشعرية؟
الذات عندما تعني العام هي محرّك الكتابة الشعرية، وعندما يبدأ شاعر مثلي حياته، منذ طفولته الأولى، في معسكر لتدريب الفدائيين في الأدرن، قبل أحداث أيلول، وعمري لا يتجازو الست سنوات، فلا بدّ أن ينعكس ذلك على حياته برمّتها، والكتابة جزء منها، إذْ كان أبي يرحمه الله حريصاً أن يخلق مني فدائياً، ولم يتحقق له ذلك، بسبب احداث أيلول من جهة، ووفاته بعدها مباشرة من جهة أخرى، ولكنه تحقق لي، كما اتمنى، في الشعر، إذْ قررت بيني وبين قصيدتي، أن نكون شعلة في الطريق، طريق فلسطين، حتى لو انطفأتْ كل المشاعل من حولنا وحولها.
وهنا لا بدّ من سرد تجربتي مع ما يسمى اوسلو، وقد تحوّل معظم الشعراء الفلسطينيين، عن القصيدة المقاومة، وصدّقوا ما يسمى بالسلام، فكتبوا عنه، وخدعهم السياسيّ، فأخرجهم من اتّقادهم، بحثاً عن شعر إنسانيّ، كما يصفونه، وكأن الإنسانية لا تبدأ من فلسطين،
أنا، واعوذ بالله من هذه الأنا، هجرت الشعر في تلك الفترة، وتوقفت عن الكتابة، احتجاجاً على ما يحدث من تنازلات، ولم أعد إلا بعد انتصار تموز، وعودة الأمل بالمقاومة، وحين عدت، وكأنني عدت من كهف الرّقيم، وجدتني أغنّي خارج السّرب، بل كان البعض، ومنهم شعراء، يتهمونني أنني أعيش في الماضي، وأنّ هذه الشعر الذي أكتبه، تجاوزه الزّمن، ولكنني بقيت مصرّاً على أنني سأعيد الشعر المقاوم إلى الواجهة، وهو ما كان، خاصّة وأنهم اكتشفوا متأخرين، زيف المعاهدات، وخداع الأعداء، من ناحية، وعودة المقاومة من ناحية أخرى.
كيف تنظر إلى علاقة الشعر الفلسطيني المعاصر بالإرث الشعري العربي؟
الشعر في فلسطين، حالّة خاصّة متميزة في الشعر العربي حديثه وقديمه، وفي محاضرة لي في جامعة الشرق الأوسط في عمّان، عن الشعر المقاوم، طالبت أساتذة الجامعة في كلّية الآداب، أن يوكلوا لبعض طلابّهم في الماجستير أو الدكتوراة دراسة هذه الحالة الفريدة، ووعدوني ان يفعلوا.
لستُ مع تسمية شعر فلسطيني وشعر أردني وشعر عراقي الخ، فهو شعر عربيّ في هذه البلد أو ذاك، وخصوصية كل شعر، لا تجعله مختلفاً بذاته، والشعر العربي في فلسطين، ميّزته حالة فلسطين، ووقوعها في فم الذئب، فجعلته كما قلتُ حالة خاصّة مؤثرة في الشعر العربي برمّته، بدليل تأثّر الشعراء العرب بالشعر الفلسطيني، إضافة إلى انتمائهم بالفطرة لقضية العرب الأولى، وكتابتهم للقصيدة المقاومة عن فلسطين ولها، وبعضهم سبق شعراء فلسطين في هذا المجال.
والشّعر في فلسطين هو بالتأكيد امتداد للشعر العربي الكلاسيكي، وإن كان أقرب إلى شعر الصعاليك منه إلى شعر الملوك، كما تأثّر بالمتغيرات الحداثوية التي دخلت على الشعر وتفوّق عليها.
ما هي أبرز التحديات التي تواجه الشعراء الفلسطينيين اليوم، سواء داخل الوطن أو في الشتات؟
أظنّ أنّ الشعر العربيّ بخير، رغم احتلال الرّواية المساحة الأوسع على السّاحة الثقافية العربية، ومنه شعراء فلسطين في الداخل والخارج، وخاصّة شعراء غزّة، فنحن نسمع أصواتاً متميزة، خاصّة أنهم أصحاب تجربة مع الاحتلال والعدوان المتواصل عليهم، وهم يكتبون شعراً فيه كلّ شروط الحداثة الشعرية، بينما يتناولون قضاياهم المصيرية، وكذلك شعراء المنافي، ولا أعمم، فالشعراء بشر في النهاية.
وأهم التحدّيات التي تواجهنا كشعراء، هي في بعض النّقاد، الذين يريدون للشعر الفلسطيني ان يتوقف عند شاعر بعينه، متناسين أنّ الشعر لو توقّف عند المتنبي لما كان شوقي، ولو توقّف عند شوقي لما كان درويش، وأذكر هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر، إذْ يزخر الشعر في الوطن العربي وفي فلسطين بالأسماء الكبيرة التي شكّلت علامات فارقة.
الشّعر كالحياة، لن يتوقّف عن اشتعالاته، ما دامت اللغة العربية حيّة، وهي لن تموت إلا مع فناء البشرية.
هل يمكن أن تخبرنا عن مشروعك الإبداعي القادم أو تطلعاتك المستقبلية كشاعر؟
ليس لي مشروع أوسع من الشعر، أنا أكتب ما دمت حيّاً، وبالتالي فإنّ مجموعتي القادمة هي بالتأكيد عن الطوفان وما تلاه، لكنّها لم تكتمل، رغم كتابتي لعديد القصائد منذ ذلك التاريخ، ولعلّها تشكّل مجموعة بحد ذاتها، لكنّ الحالة الفلسطينية مستمرة، والعدوان مستمرّ، وكذلك أنا، وسانتظر حتى تكتمل، مهما كانت النتائج قبل النشر، آملاً، ورغم فداحة ما يجري من عدوان، النصر في النهاية، بل التحرير أيضاً لكامل التراب الفلسطيني، فالصراع كما يقول أعداؤنا ذاتهم، صراع وجودي، وإمّا نحن أو هم، واليأس ليس له مكان في نفسي وعقلي، وكما قلت في احدى قصائدي:
إنْ وصلت الجدار الأخير ليأسكَ
حدّقْ مليّاً
فثمة شرخٌ صغيرٌ لتعبرَ
لم يره اليائسون.
- ما النصيحة التي تقدمها للأجيال الشابة التي تسعى إلى دخول عالم الشعر؟
أيّها الشّعراء، وأنتم تتلمسون طريق الشّعر والإبداع، إيّاكم أن يخدعنّكم السياسيّ أو الناقد المتفذلك، سيقولون لكم الشعر تغيّر، وهو كلام حقٍّ يراد به باطل، لتبتعدوا عن الوطن، ومعاناة أهلكم، وشعبكم، فأثبتوا له أن الإنسانية تبدأ بفلسطين، وتنتهي بها، ولكن إيّاكم أن تتنازلوا عن أدواتكم الفنية العالية، فالشعر جمال، أولاً وآخراً، والشاعر سفيرٌ لوطنه، وأنتم الأهمّ، وأنتم الخالدون، بينما يفنى السياسيّون وتفنى الجوائز التي يريدون شراء ذممكم بها، ولا يبقى إلا الشعر والذّكر.