
بقلم:وليد الخطيب
الحلقة الثالثة
الصُّدفة والمصادفة
يجب علينا جميعًا كعرب الاعتزاز بلغتنا، حيث إنها تشكل الركن الأساسي في الثقافة، ليس هذا وحسب، بل هي الحضارة والتاريخ والهوية والانتماء… لذا، لا خير في امرئ لا يعتزّ بحضارته وتاريخه وهويته… وبئس أمّة ليس لها ماضٍ تبني حاضرها على أساسه، إذ لا قيمة لحاضر ليس له ماضٍ يُغنيه بتراث عريق.
إنّ اللغة العربية ليست عبثيّة، بل هي لغة علميّة عقلية منطقيّة تعتمد الاسم والمسمّى والسبب في التسمية. وهنا سنتطرّق إلى كلمة نكاد نستخدمها يوميًّا، وإن بلفظ آخر، وهي “مصادفة”. وبداية، ألفت عناية القرّاء الأعزّاء إلى أنّ اللفظ الآخر هو “صدفة” وهو خطأ شائع. فالأصل في هذه الكلمة “مصادفة” أنها على وزن “مُفاعلة” وهذا الوزن يفيد المشاركة – أقلّه بين طرفين – كقولنا “مصافحة”، فلا يصح أن تكون من طرف واحد كالفعل “كتب” أو الفعل “درس” أو الفعل “قرأ” أو الفعل “سمع”… وكذا “مسامحة” و”ملاطفة” و”مواجهة”… وهكذا دواليك.
المصادفة مأخوذة من “الصَّدَفَة” وهي “المحارة”، والأصل في الصّدَفَة أنّها لا تأتي مفردة بل تأتي مع أخرى مطابقة لها، حيث تواجه إحداهما الأخرى وتكون بين كلّ صدَفة وأخرى حبّة لؤلؤ. والمصادفة تعني مقابلة شخص ما وجهًا لوجه، كما تطابق الصدفة أختها. ومنها أتت تسمية صِوان الأذن، حيث يشبه جوفها. والصدف أصلًا – كما جاء في معجم مقاييس اللغة – هو جانب الجبل وإنما سمي لميله إلى إحدى الجهتين. فكل جانب من جانبَي الجبل هو صدف، ومقابلة أحدهما الآخر يكون مصادفة أي مفاعلة.
غالبًا ما نطلق هذه الكلمة “مصادفة” على ما يحصل من دون اتفاق أو من دون ترتيب مسبق، كلقاء شخص ما من غير توقّع أو تحضير.
ليس من قبيل المصادفة أن تكون اللغة العربية مميّزة وأن تكون فريدة لا شبيه لها، وليس من قبيل المصادفة أيضًا أن تكون غنية بمفرادتها ذات الدلالات المتعدّدة وأن تكون أكمل اللغات، فقد وصفها المستشرق الفرنسي إرنست رينان بأنها “بدأت فجأة في غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فهي لغة لا طفولة لها ولا شيخوخة، بل هي عظيمة منذ بدايتها!”.
ليس من باب التعصّب للغتي، أعتبرها أهمّ اللغات – وإن كنت كذلك – بل لأنّ هذا واقعها، باعتراف كثر في العالمين العربي والغربي، وقد وصفها حليم دموس وصفًا رائعًا حين قال: “وبها العزّ تجلّى وبها العلم تباهى”. وهي وإن أصابها الضعف في الزمن الراهن وتقدّمت عليها لغات عدّة – خصوصًا الإنكليزية – بسبب وهن الأمة العربية، إلّا أنّها ستعود إلى سابق عهدها وستكون لها الكلمة العليا، فلا يُصاب بالخسوف إلا القمر ولا يُصاب بالكسوف إلا الشمس!
الوليد