درس في السياسة: صدقي شراب

درس في السياسة
“إنها السياسة التي تؤدي إلى أن نشرب الحكاية دون انتباه لما تُخفي”.
تلك المقولة للكاتب محمد مستجاب، ولكن قبل أن أسترسِلَ في الكلام عليَّ الاعتراف بأني تَيْسٌ في السياسة، لذلك وجدت تلك الجملة وكأنها تحُكُّ لي على جرب! حيث أنه في دنيا السياسة كثيراً ما كانت تخدعني المظاهر والأحداث التي تظهر على السطح دون فهمٍ و درايةٍ بالمغزى الحقيقي وراء ذلك. وحين أجدُ نفسي جالساً مع أحد عفاريت السياسة ويأخذ بالتحليل والتفصيل أجد نفسي بعيداً كل البعد عن الحقائق المخيفة والتدبيرات الخفية اللعينة. لهذا أنا أحترم رجال السياسة البارعين، الذين لا يمكن خداعهم والذين يفقهون لما وراء الكواليس ويميزون الابتسامات المزيفة من الحقيقية، وأحاول قدر الممكن أن أكون – لو بجزءٍ يسير- مثلهم.
الدرس الذي سأوضحه بعد قليل، أخذته من كتاب “مسائل ومشاحنات زهر الفول” للكاتب محمد مستجاب، وللأمانةِ أعجبني جداً، وأبهرني لدرجة أني وضعت الكتاب جانباً ثم نهضتُّ مُصفقاً له!
القصة تتكلمُ عن الحاج محمود الأعرج الذي له قطعة أرض صغيرة جداً – ضئيلة ومخنوقة بين الأراضي الأخرى الكبيرة- وحمارته التي يركب عليها، وأنه يستيقظ مبكراً قبل طلوع الشمس ويسحبها خلفه ثم يقف مرتكزاً على عكازته حتى يمر أحد العابرين ليُطأطئ له ليرتكز عليه ويركب حمارته، فيمضي حتى يصل أرضه ويفعل المِثل أيضاً عند نزوله عن الحمارة، ثم يربطها بحبل طويل في مكانٍ من الأرض بحيث يتيح لها التوغل في حقول الآخرين آكلةً ما تشاء. ويكون هو جالساً على رأس حقله يصرخ على حمارته ويشتمها متوعداً إياها بأسوأ العقاب لأنها تتعدى على أملاك الآخرين: يا ملعونة، ارجعي، يا مضروبة.. إن شاء الله تفتح بطنك رصاصة، تعالي هنا”.
والناس العابرة تشهد أنه رجل يكره الطمع ولا يحب الحرام، وأنه دائم الغضب على هذه الحمارة العاقَّة التي تخرج عن طوعه. ثم بعد أن تشبع حمارته ويمتلئ بطنها بما يكفيها حتى اليوم التالي، ينادي الحاج محمود أحد العابرين – وغالباً ما يكون من أصحاب الأراضي المنهوشة- ليطلب منه أن يسحب له الحمارة، وتشديداً في مراعاة الحقوق يطلب منه أن يهشِّم رأسها أو يفتح بطنها الجشع، بينما هو يظل يشكو ويولول من سلوكها. وما إن يحضرها له صاحب إحدى الأراضي المنهوشة، يدعو له الحاج محمود بطول العمر والسلامة لأنه ساعده تلك المساعدة، فينحني الرجل ليستند عليه ويركب حمارته.
يقول محمد مستجاب :
“فإن الحاج محمود الأعرج هو رمزٌ إسرائيلي، وحمارته التي تبدو مقيدة سلوكٌ إسرائيلي، وأن أصحاب الحقول هم العرب جميعاً، وأن الذين ينهون الحمارة عن انتهاك حرمة مزارع العرب مع مساعدة الحمارة وصاحبها في الركوب والرجوع؛ هم الأصوات التي تبدو أنها صاحبة الأمر والنهي من مؤسساتٍ كالأمم المتحدة، وجماعات السلام في أمريكا والدانمارك وكندا وجنيف وجامعة الدول العربية.
ويختم مستجاب مقاله الذي كتبه، على ما أظن، في أواخر التسعينات، بأن المشكلة الأخطر تكمن في أن الحمارة حاملٌ وأنها سوف تلد عدداً لا بأس به من أسراب الحمير!