مقالات

“وَجَدَ ووَجْدٌ، وُجودٌ وإيجاد” الحلقة السابعة عشرة من ماء الكلام يكتبها وليد الخطيب

“الوَجد” باب العاطفة والكينونة والفلسفة في آنٍ واحد، فما العلاقة بين “الوَجد” و”وَجَد” و”الوجود” و”الإيجاد”؟

     ليست الكلمات أوعيةً لمعانٍ ساكنة، بل هي كائنات حيّة تنبض بما حملته من الوجدان، وما تهجّأته الأرواح عبر الأزمنة. ومن الكلمات التي تمسّ القلب قبل العقل، ومنها: “الوَجد”. هذه الكلمات ليست مجرد اسم لحالة شعورية، بل مرآة لِما تُخفيه النفس من شوقٍ، حنينٍ، لهفةٍ وألمٍ دفين.

    الوَجْد، بفتح الواو وتسكين الجيم، هو التفاعل العميق مع العاطفة، تلك الرجفة التي تهزّ النفس حين يمرّ طيف حبيب – أيًّا كان – أو حين يُضرب على أوتار الذكرى، أو يُفتقد ما لا يُعوَّض. قال الصوفيون أنّ الوجد هو حالٌ من أحوال القرب، تفيض به النفس حين يغمرها نور الحضور الإلهي، فيتماوج القلب بين الخوف والمحبّة، بين الانجذاب والفناء.

     أما “وَجَدَ”، فهذه الكلمة هي فعل الكشف واللقاء. أن يجد الإنسان شيئًا، هو أن يرفعه من غيابه إلى حضوره، من ضياعه إلى تملّكه. وهكذا تبدأ الحكاية: من الوَجد، شعورًا، إلى الوجود، كينونةً.

     فالوجود هو نقيض العدم، هو أن يكون الشيء حاضرًا، محسوسًا ومعلومًا. و”الإيجاد” هو فعله الموجِد، الذي يُخرج الكامن من العدم إلى فسحة الكون. كأنّ اللغة العربية تجعل من “الوَجد” أول الشعلة، ومن “الإيجاد” آخر النور.  

      هكذا نقرأ في الجذر “و ج د” خيطًا يربط بين القلب والكون، بين الشعور والكينونة، بين الحب والإيجاد. فأنت إن “وَجدتَ” شيئًا، فهذا يعني أنّه كان موجودًا، وإن لم يكن، فقد “أوجدتَه”، أي خلقته. وإن لم تستطع بلوغه، فقد يسكنك في هيئة “وَجدٍ”، كأنّك تحسّ بوجوده من دون أن تمسك به.

     وفي هذا كلّه، تقول لنا لغة الضاد بلطفها العميق: “إنّ أوّل الوجود وَجد، وإنّ ما يخلقه القلب لا يقلّ حقيقةً عمّا تخلقه اليد، بل قد يكون أسبق”.

     أليس الوَجْد هو الوجه الآخر للوجود… وجهه الباطنيّ الخفي؟

     أليس الإنسان، حين يحبّ أو يشتاق أو يتألّم، “يجد” ما لا يُرى، و”يُوجِد” ما لا يُقال أو يُنطَق به؟

زر الذهاب إلى الأعلى