الشابة وعد البياري: صوت الفن في مواجهة الركام

الشابة وعد البياري: صوت الفن في مواجهة الركام
خاص – اليمامة الجديدة
في عمق الحرب، حيث يُمحي صوت الإنسان بين الأنقاض، تُصنع الحكايات التي تبقى شاهدة على قدرة الروح على المقاومة. وعد رزق البياري، فتاة من غزة ولدت في عام 2004، تحملت في عمرها القصير أوزانًا ثقيلة من الألم والأمل، لتكتب بقلبها وألوانها شهادة على ما خلفته الحرب في نفوس الشباب الفلسطيني. وهي تدرس الآن في كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى، تخصص التصميم الداخلي والديكور، وتحمل شغفًا واضحًا بالفنون البصرية بكل أشكالها.
عندما كانت وعد تحت الأنقاض، لم يكن الخوف من الموت وحده ما يطاردها، بل كان أكبر خوف لديها هو أن تموت دون أن يسمع أحد صوتها. وفي حديثها لمراسل اليمامة الجديدة، قالت وعد: “عندما كنت تحت الأنقاض، كنت أسمع صرخات الناس من حولي، وأشعر أن صوتي قد يضيع بينهم. أكثر ما كان يخيفني ليس الموت بحد ذاته، بل أن أختفي دون أن يترك صوتي أثرًا أو يسمعه أحد”.القدر شاء لها النجاة، لكنها كانت نجاة ثقيلة الوطأة؛ إذ استغرقت وقتًا طويلًا لتنفض غبار الركام عن روحها وتبدأ من جديد. إلا أن هذه البداية لم تكن سهلة. وجدت نفسها في مواجهة تحديات متعددة، بدءًا من فقدان القدرة على الرسم، إلى افتقادها لمساحتها الخاصة التي اعتادت أن تكون متنفسها للتعبير عن ذاتها. علاوة على ذلك، كانت صعوبة التواصل مع أصدقائها وقلة توفر الأدوات الفنية من ألوان وفرش وأوراق، تُضاف إلى شعورها الدائم بأن الزمن متوقف لديهم، بينما الحياة خارج أسوار غزة تستمر بلا اكتراث.
وتابعت وعد في حديثها: “بعد أن نجوت، شعرت وكأنني غريبة عن نفسي. كنت أبحث عن الفرشاة والألوان كأنني أبحث عن روحي، لكن في البداية لم أستطع الرسم، كأن الركام لم يسقط فقط على جسدي، بل على قدرتي على التعبير. احتجت وقتًا طويلًا لأزيل الغبار عن روحي وأبدأ من جديد”.وعد ليست فقط طالبة فنون، بل هي عضو فاعل في نادي الفنون البصرية بمركز القطان الثقافي في غزة. شاركت في العديد من الورش التدريبية والمعارض الفنية، وتميزت أعمالها بتجسيد الواقع المعاصر الذي يعيشه الفلسطينيون. إحدى لوحاتها، التي حملت عنوان “الأطفال ضحايا العنف والإرهاب”، حازت على جائزة “سيدة الإنسانية” في عام 2022، لتثبت أن صوت غزة قد يصل إلى العالم عبر الفن.
وفي حديثها عن الفن، قالت وعد: “الفن بالنسبة لي ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو نافذتي إلى العالم. عندما أرسم، أشعر أنني أقول أشياء لم أكن أستطيع قولها بالكلمات. ولكن في غزة، حتى هذا التعبير يصبح تحديًا. أفتقد أحيانًا المواد البسيطة مثل الألوان والورق، وأشعر وكأنني عالقة في زمن توقف عند حدود غزة، بينما العالم يستمر بلا اكتراث”.
الفن بالنسبة لوعد هو لغة للتواصل، وسيلة تعبير عن الذات دون قيود، وطريقة راقية لتجسيد الواقع. إلا أنها تجد في الفن تناقضًا جميلاً؛ فهو بالنسبة لها الحياة رغم الموت الذي يحيط بهم. هذا التناقض يعكس بصدق الواقع الذي تعيشه، حيث يصبح الفن أحيانًا هروبًا من الألم، وأحيانًا أخرى وسيلة لتقبله.وأضافت وعد: “عندما أنظر إلى لوحتي التي حصلت على جائزة “سيدة الإنسانية”، لا أرى الجائزة فقط، بل أرى الأطفال الذين حاولت أن أنقل صوتهم إلى العالم. أريد أن أستمر في رسم قصصنا، لأن الفن هو الحياة، حتى لو كان الموت يحيط بنا من كل جانب”.
بين الركام والفرشاة، بين الألم والألوان، تمضي وعد برحلتها لتوثيق ما عاشته وما تعيشه غزة يومًا بعد يوم. قصتها ليست مجرد حكاية فتاة تحاول استعادة قدرتها على الرسم؛ إنها حكاية جيل بأكمله، يحمل روحه المعذبة بين يديه، ويحولها إلى طاقة حياة، رغم الموت الذي يطرق الأبواب باستمرار.









