مقالات

“أم ميمي”: صورة مغايرة للحارة الشعبية

“أم ميمي”: صورة مغايرة للحارة الشعبية

بقلم: رجب أبو سرية – أديب فلسطيني

قدم الكاتب المصري بلال فضل في روايته المعنونة بـ “أم ميمي” والصادرة عن دار المدى عام 2021، صورة مغايرة للحارة الشعبية المصرية، تحديدًا في القاهرة. هذه الصورة تختلف عن الصورة النمطية المشهورة لتلك الحارة التي رسمها الروائي المصري الأشهر، نجيب محفوظ، في العديد من رواياته، خاصة في ثلاثيته الشهيرة “السكرية”، “بين القصرين”، و “قصر الشوق”. ورغم أن المنجز الروائي المصري قد شهد تنوعًا وتعمقًا في تقديم تفاصيل الحياة، بحيث لم تقتصر الفضاءات الروائية على مدينة القاهرة ولا على أحيائها الشعبية، إلا أن “ثلاثية محفوظ” ظلت تحتل مكانة مهمة في الذاكرة، خاصة وأنها قد ساهمت في نشأة الثقافة الحديثة، التي لم تقتصر على المتخيل الذهني، بعد أن وجدت طريقها إلى الشاشة السينمائية، ووصلت تفاصيل الروايات، كذلك طبيعة شخصياتها، إلى الجمهور الواسع، ليس من المصريين وحسب، بل ومن العرب عمومًا.

وهكذا تشكلت الفكرة عن الحارة الشعبية، بتقاليدها وعاداتها، برجالها ونسائها. خاصة وأن محفوظ اختار، بسبب إقامته تلك المنطقة التي تقع في قلب حي الأزهر بالقرب من مسجد الحسين، بحيث اختلط الموروث الديني مع الموروث الشعبي. فكانت شخصيات الثلاثية من أبناء الحارة، يتراوحون بصفاتهم بين الرجولة “الجدعة” والبلطجة، لكنهم كانوا جميعًا بسطاء، تلقائيين. بحيث قرأنا وشاهدنا وعرفنا أنه حتى “للفتوة” قوانينها وأعرافها، التي لا تحط من “رجولة” أصحابها.

وقد غطى التنوع الروائي المصري بعد ذلك المدن المصرية، من الإسكندرية إلى أسوان وما بينهما، وغطى الريف والقرى. كذلك كانت الأحياء الراقية مسارح العديد من الروايات، بحيث ظهرت الشخصية المصرية كما هي في الواقع، متنوعة ومتعددة. وكان من الطبيعي أن تقدم بهذا المنطق “أم ميمي” صورة أخرى مغايرة لصورة الحارة الشعبية كما قرأناها من قبل في ثلاثية محفوظ.

وقد اختار بلال فضل، أول شارع الهرم، شارعًا اسمه “شارع خلف كازينو إيزيس” مسرحًا لأحداث روايته، بما يضع تلك الأحداث وتلك الشخصيات في إطار مختلف منذ البداية. ورغم أن شارع الهرم يأخذك إلى حياة الملاهي الليلية التي عرف بها ذلك الشارع في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إلا أن اختيار أول الحي، وقد صار مختلطًا بين فيصل والهرم، كذلك أول التسعينيات من القرن الماضي، حين تحولت المنطقة بعد إقامة حي فيصل إلى منطقة شعبية جدًا، ولم تقتصر على الملاهي الليلية، رسم تلقائيًا صورة روائية متطابقة مع الواقع.

وإذا كان المكان قد تحدد حصريًا في شارع “خلف كازينو إيزيس”، وتحديدًا في شقة متهالكة، تعيش فيها امرأة مسنّة مطلقة، لم نعرف اسمها بل كنيتها، وهي “أم ميمي”، وميمي هو اسم أطلقته الأم على ابنها، تيمُّنًا أو استذكارًا للولد اليهودي الذي كانت تلعب معه وهي طفلة في حي الضاهر. وقد تحدد الزمان، كما حدد الروائي بعام دراسي، أي بتسعة أشهر، هي ما بين سبتمبر ويونيو من العامين 1991 و1992. ويعود ذلك إلى أن كل أحداث الرواية دارت في بيت “أم ميمي”، بعد أن انتقل من الإسكندرية إلى القاهرة، الراوي، الذي لم يكشف الكاتب اسمه، وظل يتحدث بضمير الأنا، كمن يسرد سيرة ذاتية، ربما كانت سيرة الكاتب نفسه، وذلك بعد أن قرر الراوي الذي عاش في الإسكندرية دراسة الإعلام في جامعة القاهرة.

حيث ساقته الظروف للسكن في غرفة من شقة “أم ميمي” المكونة من غرفتين وصالة. وكل ما فيها يدل على فقرها المدقع، من الأثاث إلى الحمام. وهكذا فإن العالم الخارجي لم يظهر أو لم يتقاطع مع العالم الداخلي للرواية، ولا بأي شكل. بل إن الراوي وهو طالب سنة أولى، أي في عمر 18 سنة، جاء من الإسكندرية للقاهرة، ولم يقم كما هي عادة من هم مثله، باكتشاف عالم القاهرة المثير والمتنوع، بل ولا حتى عالم الجامعة. فلم تأخذنا الراوية أبدًا لداخل الحرم الجامعي، ولم تسرد أية أحداث تذكر لها علاقة بوجود الراوي في الجامعة لجهة علاقته بزميلاته أو مدرسيه أو تحصيله. وكل ما ورد كان ذكرًا لصديقيه ناجي وأمجد، واللذين ظهرا في الحارة، حين جاءا لإيصال ملفات دراسية للراوي، وكانا يتركانها عند عم سيد البقال.

وانحصرت الشخصيات في مستويين بالطبع، كما هو حال معظم الروايات: شخصيات رئيسية، كانت شخصيات الراوي، أم ميمي، ميمي، وشعراوي، وشخصيات ثانوية مثل فاتن وصبحي، رحاب وعم سيد البقال. ووردت أسماء شخصيات لم تظهر حتى في الحوار مثل “أبو سامية وسامية وأمها”، بينما ظهر ناجي وأمجد ظهورًا عابرًا، وكذلك كان حال عامل المشرحة. وكأن النص الروائي كان معدًا كنص سينمائي، بحيث ظهرت الشخصيات مكتملة وواضحة، وإن كان جوهرها أو طبيعتها ظهرت مرتبكة، ربما لأن الكاتب يرى أن الشخصية الروائية هي مطابقة للشخصية الواقعية، أي أنه لا يؤمن بالتنميط. لذا، فهي ليست شرا مطلقا ولا خيرا مطلقا، كما كانت تظهر الشخصيات المحفوظية على سبيل المثال.

وطبيعي أن تختلف الشخصيات ليس فقط، بل وكل مكونات الصورة، نظرًا للفارق الزمني بين عصري محفوظ وفضل. لكن ما يدفعنا إلى القول بأن طبيعة الشخصيات بدت ملتبسة، ليس فقط بناء على تفضيل فضل عدم التنميط في الشخصيات، بل يعود ذلك لارتباك حقيقي، أو لغموض غير واضح السبب. ففي آخر مطاف الرواية، لم يقف النص عند حقيقة “أم ميمي”، إن كانت ضحية طليقها، الذي كان يفرض عليها قبول ما يقوم به من فعل شائن بجعل شقته بيتًا للدعارة. وقد ذهبت بهذا الاتجاه قناعة الراوي، حتى تأثر بالرواية المضادة لشعراوي، حين أخبره بأنها هي من حرضته على ذلك، ولدرجة أنها طلبت منه أن يتبادلا الأدوار، فيأخذ هو الأولاد لمحطة الأتوبيس، فيما تمكث هي مع الزبائن والعاهرات حتى يفرغوا من القيام بالممارسة المحرمة.

كذلك اختلط عليه الأمر وعلى القارئ بالطبع حول شخصية رحاب، وإن كانت تسعى للتوبة فعلا، والهرب إلى الإسكندرية من جحيم الدعارة الذي وضعها فيه أبوها وأمها، إلى عالم نظيف، أم أنها كانت متآمرة مع شعراوي وأبيها؟ واختلط الأمر بين أن يكون “ميمي” هو من رتب “الملعوب” أو الفخ للراوي، أم شعراوي وأبو سامية ورحاب.

أما صورة الحارة كلها، فرغم أنها اقتصرت على عائلة “أم ميمي”، والتي كان واضحًا بأنها كانت قد جعلت من شقتها مكانًا لترتيب الممارسة المحرمة بين العاهرات وزبائنهن، لكن هم أنفسهم لم ينخرطوا في ذلك. أي أن شعراوي أو أم ميمي كان أحدهما يقوم بدور القوادة، أي بدور الوسيط بين العاهرة وزبونها، ومن يجعل من منزله أو منزلها مكانًا لفعل الحرام. وعلى عائلة “أبو سامية” التي كانت أسوأ، حيث جعل الرجل من ابنتيه سامية ورحاب عاهرتين، وربما من زوجته أيضًا، وكان يقوم هو بدور القوادة عليها، باستقبال الزبائن في شقته بالذات، وأمام عينيه. أما باقي سكان الحارة، فلم نر منهم سوى عم سيد البقال، الذي كان يعرف كل ما يدور في الشقتين، ويصمت. وكذلك كان حال ضابط الآداب الذي كان يأخذ رشوته، وكانت عبارة عن متعة أسبوعية، عادة ما تكون أيام السبت، حيث يقضي وتره في بيت “أبو سامية”، مع بناته وزوجته بالطبع.

أما فاتن فقد حرص أبوها على أن يبعدها عن العمل كعاهرة، وفعل الأمر نفسه مع زوجته. ولم يخل أمجد، صديق الراوي الثري، الذي يذهب إلى الجامعة بسيارة مرسيدس، حيث يمتلك أبوه مصنع زبادي وألبان، من إقامة العلاقات الحرام مع عاملات المصنع، فيما كان الراوي نفسه، ومنذ أيامه الأولى يذهب للسينما ليشاهد ما فيها من عري وإباحية.

من الواضح أن الرواية قدمت تلك الصورة، صورة الدعارة في الحارة الشعبية، ارتباطًا بحالة الفقر والجهل، وليس ارتباطًا بحالة من التحرر الفكري، مثلاً. وقد أكد هذا ما تخلل الحوارات، وكانت كلها يجري سردها على لسان الراوي، كما لو كان يسرد سيرة ذاتية، كما أسلفنا من قبل، من ألفاظ بذيئة، تعيد إلى الأذهان أجواء “ألف ليلة وليلة”، تحديدًا نسخة بولاق غير المنقحة، أو كتب جلال الدين السيوطي، حيث يعتبر استخدام تلك الألفاظ دالا على البيئة الشعبية، فيما التهذيب بالابتعاد عنها يدل على الحياة المرفهة، والأحياء الراقية.

من هذه الزاوية يبدو النص مختلفًا، بل وحتى متفردًا واستثنائيًا. فلا يمكن أن يؤخذ عليه أنه يدعو للانحلال مثلًا. في حقيقة الأمر، أن الشبان والرجال وحتى النساء في الأحياء الشعبية، يسخدمون تلك “اللغة” متضمنة تلك الألفاظ. كما أن النص مكتوب بحرفية عالية، دالة على موهبة ليست راوئية وحسب، بل موهبة الكتابة البصرية. وربما يعود ذلك لتجربة الكاتب في كتابة السيناريو. وأهم ما يلفت الانتباه، قدرته العالية على التشويق بالسرد، من خلال التقسيط في تقديم المعلومات، وكذلك عبر تقديم المبررات الدرامية للأحداث.

فمثلاً، للإجابة على السؤال: من الذي أخبر “ميمي” بما يحدث بينه وبين رحاب؟ كانت رحاب نفسها. لكنه هنا احتار بين أن يكون “ميمي” كاذبًا، وقد فعل ذلك لأنها تراجعت عن متابعة الترتيب معه، أي “ميمي”، أو أن يكون صادقًا، وكان كل ما فعلته رحاب مع الراوي خطة رتبها شعراوي وأبوها للإيقاع بالراوي.

وكثيرة طبعًا الأمثلة التي تدل على أن التشويق كان ناجمًا عن حرفية سردية عالية. وهكذا نسج الكاتب “حدوتة” مشوقة، واستخدم تكنيك بريختي في السرد، حين كان باستمرار يقوم بقطع حالة التقمص، بمخاطبة القارئ. “سآتيك بذكره فيما هو آت ص6، لا أريد أن أضيع وقتك في سرد تفاصيل إقامتي ص10، يهمني أن تعرف أن استفاضتي ص18، شوف يا سيدي ص29، لن أكذب عليك ص73، أجيب لك سيرتهما ببعض التفاصيل ص117، سأقول لك ما دخل ميمي بالموضوع ص135.” كل هذه وغيرها كثير من مخاطبات للقارئ.

وقام بتقطيع النص وفق مقاطع، أو فصول، أخذ كل منها عنوانًا دالًا. وكانت كلها متسلسلة زمنيا ومنطقيًا بما يضع الحبك على سلم تصاعدي، بما لا يدع مجالًا لأي هنة أو ضعف في البناء الحكائي. وهكذا يمكن القول بأن الرواية كانت مشوقة ومكتوبة بحرفية واتقان. ولكن…

كانت هناك أخطاء بينة، منها أن الراوي بدا أنضج وأعمق مما هو مفترض في طالب جامعي في السنة الأولى، وفي عام 1991 بالتحديد. وهذا يعود إلى ما يقع فيه جل الروائيين العرب من خطأ التداخل بين الراوي/البطل، والكاتب/الراوي. كذلك ظهر هناك حشو، رغم أنه لم يكن فادحًا، ونقصد به تقديم صورة قديمة، ذهبت بعالم الرواية المغلق زمانيًا ومكانيًا إلى النصف الأول من القرن العشرين. أي عادت بزمن الرواية نحو خمسين سنة، لتقدم مشهداً خاصًا بالزعيم الوفدي رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت مصطفى النحاس، حين قام أبو شعراوي بحلق رأس الزعيم وكان صبيًا للحلاق الشعبي الخاص بزعيم مصر.

كذلك وقع في خطأ ما يروى كحديث نبوي شريف، وهو “ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها” رواه مسلم. حين ذكره أكثر من مرة، بما هو منقول عما يصدح به الدعاة في المساجد والمحطات الفضائية على ما يبدو، حين قدمه قائلاً: الكاسيات العاريات المائلات المميلات كأسنان البخت. وبالطبع النص يقول كأسنمة البخت، والأسنمة هي جمع سنام، والسنام هو ظهر الجمل المحدب، والبخت هو الجمل الهجين بين الجمل العربي والجمل ذي السنامين الذي يظهر في أستراليا وآسيا عمومًا وفي غير مكان من العالم، غير الجزيرة العربية.

كما أننا نعتقد بأن العنوان لم يكن موفقًا تمامًا، أي ليس دالًا تمامًا على جوهر النص. فأم ميمي كانت واحدة من الشخصيات الرئيسية للرواية، ولم تكن الرواية تدور حول تلك الشخصية، بل حول الراوي. ولو كان العنوان مثلًا “عمارة ما في شارع بلا اسم” للدلالة على أحداث وقعت في شقتي أم ميمي وأبي سامية، وحتى في بقالة عم سيد، أو “شارع خلف كازينو ايزيس”، أو “عالم أم ميمي وزوجها وجيرانها”، أو حتى “شقة أم ميمي”، على نمط “شقة الحرية” لغازي القصيبي. وحتى كان يمكن أن يدور العنوان حول تجربة طالب جامعي سنة أولى، حاول أن يعتمد على نفسه، ويتحرر مبكرًا من سطوة أبيه، التي بدأت بمحاولته فرض التخصص الجامعي الذي عليه أن يدرسه، بالضد من رغبته.

لكن أخطر نقيصة للرواية تكمن في انعدام وجود مقولة مهمة تبررها أو تجعل منها رواية عظيمة. فبالرغم من حبكتها وتشويقها، ومن كشفها لحقيقة الواقع كما هو، بل ومن سردها الحرفي وحبكها المتقن، إلا أنها توافقت مع أغنية ليلى مراد: “كلام جميل مقدرش أقول حاجة عنه، لكن خيال حبيبي المجهول، مش لاقية فيك حاجة منه”.

الخيال المجهول

إن خيال الحبيب المجهول هنا هو مقولة ثورية أو غاية أخلاقية بالمعنى الإنساني للكلمة، تبعد السرد الفني عن عالم اللغو الكلامي. فحتى “ألف ليلة وليلة” كانت تنطوي على مقولة إنسانية، ولم يُبدَع هذا العمل من أجل اللهو. وهناك فارق كبير وبون شاسع بين اللهو والمتعة.

الكاتب ووعي المقولة

ويبدو أن الكاتب/المثقف والموهوب بلال فضل نفسه كان يدرك هذا ولو في لاوعيه، فحين هم بكتابة القفلة أو الجملة أو الفقرة الأخيرة في الرواية، التي عادة ما تجمل الهدف أو المقولة من كتابة النص، قام بمحاولة إحالتها لنص آخر أو جزء ثانٍ. فقال: “حين ركبت الميكروباص المتجه لجامعة القاهرة، كان آخر عهدي بشعراوي ومن معه وحوله، وبداية رحلتي نحو حارة السمكة التي سأنبئك بأخبارها إن عشنا وكان لنا عمر”.

القاهرة
10 / 12 / 2024

زر الذهاب إلى الأعلى