مقالات

مشهد آخر

بقلم : أ.خضير بشارات

و تعود طمون إلى صناعة الحدث من جديد و تتصدر مشهد المقاومة و النضال الوطني و ترفع شارة الشهداء و تسير في حقل الألغام ، و النصر يتماهى في عيون أبنائها. ما أجمل الصباحات التي تتخضب بالدماء فتنير دروب العائدين من المنافي لله درك و انت تواجهين نازبة العصر ! طبت و طاب مشوارك الطويل فهو إرث يتناقله الأحفاد جيلا بعد جيل ، لتستمر شعلة العطاء ، ولتبقى الثورات متقدة بين شوارع القرية كما ملتهبة في صدور الأجيال.

منذ الصباح و آليات العدو تقتحم القرية من محاورها المتعددة ، تنعق في شوارعها و بين زقاقها غيرت ملامح الصباح و جماله، وأوقفت حركة اليوم الرتيبة، تعطلت المؤسسات ، لم يخرج الطلبة إلى مدارسهم ، و لم تحرك أعواد الحراثة إلى الأرض فالكل خائف يترقب المجهول. ماذا ستكشف الساعات القليلة القادمة ؟

الطائرات تحوم على جغرافية المحافظة و على مستوى قريب ، فهي لا تفارقها منذ ساعات مساء أمس الأولى و أبعد، أقلقت الزنانة النائمين فهى تنذر بشر قادم و صباح ستلوثه وحشية الاحتلال، و ما يجلبه إلى داخل القرية و محيطها من آليات متنوعة وجرافات لتخريب الشوارع وهدم صور الشهداء المعلقة على ميادين البلد المختلفة يطلقون الرصاص، و يغيرون رائحة الجو بقنابل الغاز ،تخرج الطيور من أعشاشها خوفا من هدير دباباتهم ،تهاجر حيث لا أصوات لقنابل الصوت ، تتقصى أجواء الطبيعة الهادئة لتحط رواحلها فيها بعيدا عن الاحتلال و ممارساته القمعية.

ترسل الدبابات ضجيجها إلى أزقة الحارات ، و هي تلج إلى منازل من تعتبرهم مطاردين، تحيط بها، تروع كل من يقطن حولها أو داخلها، لا يراعون حرمة البيوت و لا يبالون بكل تصرفاتهم العدوانية التي تخيف الأطفال، وتزعج كبار السن وتبكي النساء حرصا على أبنائهن، من الجو تضرب الطائرات حمم صواريخها على الشباب وهم أبرياء ، فيرتقي منهم الشهداء ويرقد بعضهم جرحى في المشافي يعاني جراحه بصبر و إيمان.

صباح الثلاثاء أطلقت الصهيونية غضبها معتقدة أنها ستصيب الحلم الفلسطيني وتنال من عزيمة رجاله و حراسه ، ضربت الشباب الأبرياء فارتقى أثر هذا القصف الجبان شهيدان ، تتوغل الدبابات إلى أحياء متفرقة في القرية ، حي المشماس و الشارع الالتفافي بالقرب من ديوان الزغايرة ، تتقدم القوات الصهيونية من منطقة المرحان و الشارع الرئيسي من عاطوف و تدخل من جهة الغرب القادمة من حاجز الحمرا.

طمون أشبه بثكنة عسكرية، تعطلت كل مرافقها و الكل ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث العسكرية التي تقوم بها عصابة بن غفير و سمورتش ضد الأبرياء الذين لا حول لهم و لا قوة، نتابع الأخبار عبر صفحات التلجرام وغيرها من الصفحات الإخبارية المنتشرة في الفيس أو الواتس منذ أن دخل الاحتلال القرية ما يقارب الساعة العاشرة مساء السادس من يناير ، أنهك الليل الأبرياء و لم يسلم منهم الحجر و الشجر ، يحاولون إرهاب جغرافية الوطن ليقيموا بؤرهم على طلل الفلسطيني الذي سيرحل بقوة السلاح و عنجهية دول الاستعمار الداعمة للصهيونية ،هكذا هم يفكرون ، يتناسون أن الفلسطيني هو شجرة الزيتون المتجذرة في أرضه منذ آلاف السنين .

استمر العدوان على طمون والمحافظة بأكملها إلى ما يقارب ساعات الظهيرة من يوم الثلاثاء خلف وراءه شهيدين وجرحى و تجريف وتخريب والناس حيرى في معرفة الشهيد الثاني؛ فالاحتلال كعادته حمل الجثمان دون أن يبلغ عن اسمه ، ولم يتسنى لأهل البلد معرفته ، حمل الإسعاف الشهيد سليمان قطيشات إلى المشفى و ملأت صورته صفحات التواصل الشخصية والرسمية، نعاه الأصدقاء ورفاق الدرب و تشربت الأم و الأهل حسرة الفقد و الحرمان .

لم يتوجه الموظفون إلى دوامهم فاليوم عطلة رسمية بمناسبة أعياد المسيح ، العصابة الصهيونية لازالت تشدد من حواجزها العسكرية منذ يوم الإثنين بعد إطلاق النار الذي قام به مسلحون فلسطينيون على حافلات تابعة للاحتلال في قرية الفندوقومية؛ فجن جنونهم إذ راح ثلاثة قتلى و عدد من الإصابات الحرجة مما جعلهم يفقدون الأمن و يزيدون من تراكم الحواجز لأرهاق الفلسطيني و لتقطيع التواصل بين أجزاء الوطن، و مما زاد من غضبهم أن تمكن المقاتلون من الهرب ، و هذا يعكس قدرتهم القتالية ومدى ممارستهم وبعدهم بالوعي الأمني و لكن الاحتلال تمكن من الوصول إلى العقل المدبر للعملية و تمت عملية الاغتيال للقائد الشهيد جعفر دبابسة يوم الثلاثاء في ساعات الصباح الأولى، ليعم الحزن الجميع .

وما لبثت أن تناقلت الخبر المحطات المرئية والمسموعة و عبر الأجهزة الخلوية، ثم تلا ذلك تبني فصائل المقاومة العملية إذ اشترك في تنفيذها فتح و حماس و الجهاد و هذا يعد ضربة قاسمة للكيان المسخ وزمرته الصهيونية و جاءت لتؤكد وحدة القرار الوطني الفلسطيني و تعمق المقاومة في حاضنتها الجماهيرية. تشيع جماهير طمون شهيدها سليمان، تصدح الأصوات المنددة بجرائم الاحتلال و تعلو التكبيرات ، تجوب أزقة البلدة ،تنطلق الجنازة من المشفى التركي مارة من طوباس وعبر شارعها الرئيسي ليلتحق بها كل من يقدر الشهداء ويحترم تضحياتهم ؛ فهم شعلة الثورة المتقدة التي لا تنطفئ ، لم يكشف الاحتلال عن هوية الشهيد الثاني ولم يتناوله أحد عبر صفحات التواصل ، الكل يتوجس و خائف و يدعو الله ألا يكون من القادة الذين يمسكون زمام الأمور في المحافظة؛ لما له الأثر في يوميات الانتفاضة ومجرياتها ، فأصحاب التجربة لهم باع طويل في الإعداد و المواجهة ويملكون من الأمن ما يرعب عدونا الصهيوني.

لم يكن المساء صافيا و لا هادئا في سماء طمون فهي تودع شهيدا و آخر سرقه الاحتلال، وطائراته لا تزال تحلق منخفضة في سماء المنطقة فيبدو أنهم لم يكتفوا بما حدث، الناس تراقب وتتابع بحسرة و ألم مجريات الوطن، غزة و جراحاتها جنين و مخيمها وما فيها من القتال الدموي بين القانون ورجال المقاومة كما يرون أنفسهم ، شيء مؤسف و يدمي القلوب ، قلوب ران عليها و أصابتها الغشية ، ما يزيد عن الشهر ومدينة جنين تئن و تعاني من شبح الخلاف و رفض الآخر.

لم تختلف رتابة يوم الثلاثاء عن غيرها من أيام، داخل المنازل وخارجها ، فوضى الأطفال و متابعة شاشة التلفاز لمشاهدة مآسي غزة والضفة المتكررة من حرق و تهجير و نصب حواجز و تفتيش و إذلال للناس المارة عبرها ، ساعات طوال وهم ينتظرون عسى أن يفتح الجندي الطريق، مدن الضفة إغلاق تام ، اعتقالات على الحواجز، وحدات خاصة تتسلل إلى حيث تجد من تطاردهم ، ترهب الأطفال والنساء  وتزعج كبار السن، تعرقل هدوء الحياة وتكدر صفوها ، وتطلق النار  على من تطاردهم في وضح النهار ، يتوجه الموظفون إلى مقراتهم و أعمالهم صباح الأربعاء الثامن من يناير ، أجواء باردة نسبيا ولكنها لا تخلو من شبح الاحتلال ، الطائرات لا تفارق المدن الفلسطينية منذ مساء الإثنين ، اتصل يوسف بأخوته عبر مجموعة على المسنجر وتفاجأ؛ لازالوا في منازلهم ، أخبروه أن الجيش اقتحم القرية من جديد، يبدو أنهم لم يكتفوا بما عملوه صباح البارحة.

 ما أن وصل يوسف إلى المدرسة فإذا بالأخبار تملأ الصفحات بهمجية العدو على محافظة طوبلس وبلداتها، قال أحد المعلمين :الجيش في طمون و هناك قصف لأحد المنازل ، الوضع غير طبيعي ما الأمر ، يوجه حديثه لأحد الزملاء فهو من القرية عسى أن يوصف له وحشية الاحتلال أو ليتابع الأخبار ليرى حجم همجيتهم و هجمتهم المتكررة فهم لم يفارقوها منذ بدء هذه الحرب المسعورة على غزة ، يفتح جهازه يتوجه إلى صفحة طمون الإخبارية ،يرى العجب آليات متوحشة تحيط بالقرية و أخرى تقتحم حي المشماس، الطائرات تحلق في سمائها، تضرب المنازل و تقصفها ، لا أنباء عن شهداء، لسان العدو يقول : قضينا على خلية إرهابية وضعت العبوات في طريق قوتنا، و يظهر انتصاره بالقضاء على المقاومة و قيادتها ، يتحرك المعلمون داخل غرفتهم إلى أعمالهم المعتادة ، مراقبة على الطلبة، إعطاء الحصص لطلبة الصفوف الأساسية الأولى، يخرج أحدهم ليحضر الفطور ، وآخر يعد القهوة يوزعها على من يتجمهرون حول الصوبة، يرشفون مرارها و يتابعون التصحيح و إدخال العلامات لكن الجميع يتابع جهازه لأغراض تهمه، وأهمها مواصلة آخر المستجدات الميدالية في الضفة و غزة.

تأتي الأخبار تباعا من طمون وعلى لسان جيش الاحتلال و كأن شيئا غامضا يحدث تنفي أن تكون قد قصت على خلية إرهابية ليتقلص إلى شخص واحد و من تبقى فهم لا علاقة لهم بالحدث الأمني، ترفض تسليم الشهداء إلى الإسعاف الفلسطيني و تختحز الجثامين في نجمة داود الحمراء  وتنقلهم حيث معسكراتهم المتاخمة لطمون ،مع تقدم الوقت يظهر عجز العصابة الصهيونية عندما يعلن عن أسماء الشهداء فهم أطفال لا يتجاوز العمر عن العشر سنوات و شاب ثالث عمره ثلاث و عشرون سنة قد عاد من أداء العمرة منذ يومين من تاريخ الشهادة ، تخبط في أداء العصابة و هستيريا جنونية تجعلهم يقصفون المنازل وهي لا أحد فيها إلا الأطفال والنساء و لعبهم و طفولتهم البريئة ، الدماء تسيل بجانب الأسوار المحيطة لمكان القصف ، دبابات العدو تذرع الطرقات و تجول في القرية  التي سكون تام يعمها ، حزن يلقي ثقله على أهلها، تغيب الشمس مبكرا لتلف بين أشعتها الشهداء بعدما أعاد الجيش جثامينهم الطاهرة الندية ، تودع طمون خمسة شهداء في يومين ، لله درك وأنت تقدمين أبناءك على قرابين الحرية و النصر. جر الاحتلال أذيال هزيمته أمام تلك الكارثة الإنسانية التي ارتكبها في طمون ليثبت بذاك أن جيشه يتسم بالإرهاب والاستقواء على الطفولة والبراءة المتدفئة بين الجدران، وعلى جوانب الشوارع يلهون بألعابهم ، إنه يعبر عن الشر المتغلغل في عقل الصهيونية التي أقامت مشروعها المعاق على دماء الأبرياء منذ عقود ، و تحاول أن تقنع العالم المجرم ببراءتها أمام الإرهاب الفلسطيني متناسية أن الشعب الفلسطيني طُرد من أرضه تحت سياط الإرهاب الصهيوني والاستعمار الغربي ولازال يدافع عما تبقى من فلسطين ، وقد خذله العالم أجمع وتخلى عنه القريب والبعيد ليواجه قدره بنفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى